التقدير الشهري (مصر نوفمبر 2025)
التاريخ : الاثنين 01 ديسمبر 2025 . القسم : خلاصات شهرية
يُظهِر رصد نوفمبر أن هوامش المناورة الإقليمية لمصر تتعرض لإعادة تشكيل من قِبل قوى إقليمية ودولية في غزة والبحر الأحمر، بينما تحاول القاهرة البقاء في موقع الفاعل عبر المساومة بأوراقها الأمنية والاقتصادية، لكن يقيدها اعتماد متزايد على الدعم الخليجي والغربي. وفي الداخل، يوظّف النظام حالة التوتر الإقليمي والأزمة الاقتصادية لتبرير تشديد القبضة الأمنية، مع إبداء مرونة تكتيكية في بعض الملفات القانونية والانتخابية، ما يستدعي مراقبة ما إذا كانت هذه المرونة تمهد لمسار سياسي أوسع أم ستظل محصورة في حدود إدارة الأزمات.
- في ملف غزة والحدود مع الكيان، يتعزز انتقال "إسرائيل" من منطق الشراكة الأمنية الهادئة مع القاهرة إلى منطق فرض الوقائع الأمنية وممارسة الضغوط؛ فإعلان المنطقة المحاذية للحدود كمنطقة عسكرية مغلقة، وربط تهريب السلاح عبر الطائرات المسيّرة بالحرب على غزة وبتعاظم "التهديد الإرهابي"، يشير إلى محاولة إسرائيلية لتأطير أي قصور مصري على الحدود باعتباره جزءًا من معادلة التهديد، بما يفتح الباب أمام تبرير استخدام قوة أكبر في محيط الحدود، والضغط بورقة الغاز، وملفات التعاون الاقتصادي، باتجاه تغيير المعادلة الأمنية القائمة منذ كامب ديفيد، سواء عبر التفاوض من أجل تعديلات صريحة، أو قسرا من خلال فرض أمر واقع متدرج.
- وتفيد المؤشرات أن الولايات المتحدة لا تعارض هذا التوجه الإسرائيلي، ما يجعل من الممكن الربط بين ملف أمن الحدود وبين استمرار التسهيلات المالية والدعم الدولي. ومع هذا؛ فإن مساومة مصر ليست إلا وجها واحدا من ديناميكية العلاقة الراهنة؛ حيث تواصل القاهرة – بقدر من النجاح حتى الآن – تذكير الولايات المتحدة و"إسرائيل" ودول الغرب بأهميتها كشريك أمني استراتيجي في المنطقة، وأهمية استقرارها السياسي والاقتصادي لمجمل الاستقرار الإقليمي. وبالتالي، فإن العلاقة تظل محكومة بثنائية الضغط والاعتمادية المتبادلة، لا بمنطق الإملاء الأحادي من طرف واحد، وإن كان التوازن الراهن يميل أكثر لصالح الاحتلال وليس لمصلحة مصر.
- يتحول البحر الأحمر إلى عقدة أساسية في هندسة الأمن الإقليمي، والتنافس الجيوسياسي الأوسع. حيث تتزاحم تحركات كل من الإمارات و"إسرائيل" من جهة، والسعودية من جهة أخرى، وإيران والحوثيين من جهة ثالثة، مع تنامي أدوار قوى دولية أخرى مثل روسيا. وأصبح البحر الأحمر رابطا مباشرا بين الصراع في اليمن والسودان وغزة، وساحة لتجاذب النفوذ الإيراني والترتيبات الأمريكية-الخليجية. في هذا الإطار، تتحول مصر تدريجيًا من فاعل يضع الترتيبات، بحكم محورية قناة السويس وموقعها الجغرافي، إلى طرف يُطلَب منه التوافق أو التكيف مع قواعد تُصاغ بمعزل عنه؛ أي من "مالك لورقة" نوعية (قناة السويس) إلى "ساحة عبور" معرضة لتداعيات تحركات الأطراف الأخرى. ومع ذلك؛ فإن التحرك المصري نحو تنسيق أوسع مع السعودية وتركيا، ومحاولات تأكيد أهمية قناة السويس وشرق المتوسط في أمن الطاقة والتجارة العالمية، قد يفتح – نظريًا – نافذة لمراكمة دور مصري أكبر في أمن البحر الأحمر الذي يظل محوريا للقاهرة.
- في الخلفية، يتواصل اعتماد مصر على الحلفاء الخليجيين – خاصة السعودية والإمارات – في التمويل والاستثمار، بما يجعل من الصعب على القاهرة تبنّي خيارات استراتيجية تتعارض جذريًا مع الاتجاهات العامة لشركائها الإقليميين، حتى لو اقتضت حساباتها الوطنية ذلك في بعض الملفات. عمليًا، تُعمّق هشاشة الداخل الاقتصادي من قابلية مصر للتأثر بقرارات تلك العواصم، وتفرض مزيدًا من القيود على قرارها في ملفات الأمن الإقليمي، وتحدّ من قدرتها على المبادرة وفرض شروطها، خصوصًا في ساحات مثل السودان والبحر الأحمر وليبيا.
- هذه التطورات الخارجية تتقاطع داخليًا مع مسارٍ واضح لتوظيف التوتر والغموض الإقليمي من أجل تثبيت توجهات النظام السياسية والأمنية. فالأزمة الاقتصادية العميقة، إلى جانب خطوات إعادة تشكيل الإطار القانوني (مثل قانون الإجراءات الجنائية)، تترافق مع سردية رسمية تؤطر ما يجري على الحدود وفي البحر الأحمر باعتباره خطرًا وجوديًا. في ظل هذا الخطاب، يصبح تأجيل أي انفراجه سياسية، ومواصلة تشديد القبضة الأمنية، مبررًا بدعوى حماية الجبهة الداخلية وعدم تعريض الدولة لمغامرة في لحظة إقليمية حساسة وغير مستقرة.
- مع ذلك، لا يكتفي النظام داخليا بالرهان المستمر على الأمن الخشن فقط؛ إذ أظهر قدرًا لافتا من المرونة في ملفي تعديل قانون الإجراءات الجنائية (وإن كان تعديلا محدودا في جوهره)، وفي قرار إعادة الانتخابات في بعض الدوائر على وقع اتهامات بالتزوير. وعلى الرغم من أن هذه المرونة تظل حتى الآن تكتيكية ولا تكفي ولتغيير الاتجاه العام لسياسات النظام، لكنّها تشير لنهج جديد نسبيا في معالجة بعض الملفات، التي قد يقدّر النظام أن كلفة التصعيد فيها أعلى من كلفة تقديم تنازلات جزئية، سواء لأسباب داخلية تتعلق بامتصاص الاحتقان في قضايا بعينها، أو مراعاة لالتزامات وضغوط خارجية، خاصة في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. من المبكر حاليًا الجزم بمدى عمق هذه المرونة، وهل تمثل نمطًا قابلًا للتوسع أم مجرد استثناءات معزولة عن السياق العام؛ وهو ما يستدعي مراقبة دقيقة لمسار التشريعات والإجراءات السياسية خلال الأشهر القادمة.