انتكاسة فرنسية متواصلة في منطقة الساحل.. آخر تجلياتها النيجر
التاريخ : الاثنين 25 سبتمبر 2023 . القسم : إقليمي ودولي
تستعد فرنسا لمغادرة النيجر، آخر حليف لها في منطقة الساحل، في أحدث انتكاسة لباريس التي سبق طردها من مالي وبوركينا فاسو، ما أسدل الستار على عقد من التدخل العسكري لـ"مكافحة التطرف" في المنطقة.
في نهاية مواجهة يتعذر مواصلتها مع النظام العسكري على مدى شهرين، رضخ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أخيراً بإعلانه الأحد عودة السفير إلى باريس وسحب 1500 جندي "بحلول نهاية العام".
ويأتي هذا الانسحاب القسري بعد مغادرة مالي في أغسطس/ آب 2022 وبوركينا فاسو في فبراير/ شباط 2023. في الدول الثلاث، طلبت الأنظمة العسكرية التي تسلمت السلطة بعد الانقلابات من فرنسا الانسحاب، معتمدة على الشعور المعادي لها والتحول، كما في مالي، نحو التعاون مع مجموعة "فاغنر" الروسية.
وحتى انقلاب 26 يوليو/ تموز الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد بازوم، كانت النيجر واحدة من آخر حلفاء باريس في منطقة الساحل، وركيزة لقواتها المنتشرة لمحاربة المتطرفين في المنطقة.
واعتبر الباحث إيفان غيشاوا، المتخصص في شؤون منطقة الساحل، على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، أن الانسحاب من هذا البلد "يكرس الفشل الذريع لسياسة فرنسا في منطقة الساحل".
وبحسب العديد من المراقبين، فإن باريس لم تلحظ أو لم ترغب في رؤية التطورات الجارية في المنطقة.
وقال دبلوماسي فرنسي إن ما حدث في "مالي امتد ببطء، كنا نعلم أننا أمام مثل هذا التوجه الواضح. لقد شهدنا هذه الموجة تتنامى منذ سنوات. شعرت فرنسا بأنها تفقد مكانتها، لكنها ظلت في حالة إنكار واستغراب". وأضاف "نجد أنفسنا الآن أمام عواقب العسكرة المفرطة في علاقتنا مع أفريقيا، في حين تعصف أزمات أمنية وبيئية ومجتمعية أيضاً بمنطقة الساحل"، وهي من أفقر مناطق العالم.
هدوء في نيامي
وبدت عاصمة النيجر نيامي هادئة، الاثنين، غداة إعلان الانسحاب الفرنسي الذي لاقى ترحيباً لدى بعض السكان الذين تحدثوا لوكالة "فرانس برس".
وكانت الحركة طبيعية في المدينة، بينما انتشر جنود أمام مقر السفارة الفرنسية، كما كانت آليات عسكرية متوقفة قربها.
ولم تسجل أي حركة خاصة تدفع للاعتقاد بأن السفير الفرنسي سيلفان إيتيه غادر البلاد.
ورحّب الكثير من النيجريين في شوارع العاصمة بهذا القرار. وقال مرزوق دولا، لوكالة "فرانس برس" في حي يانتالا الشعبي قرب السفارة الفرنسية: "يجب أن يغادر العسكريون الفرنسيون فوراً (البلاد)، لأننا فعلياً لسنا بحاجة إليهم". وأضاف "يقولون إنهم يساعدوننا، (لكن) لم نلحظ أي تغيير"، وهي وجهة نظر شاطره إياها عبد القاري حسن مايكان، وهو من سكان العاصمة أيضاً.
وقال: "لقد أحضرت فرنسا جيشها إلى هنا منذ فترة طويلة، لكنهم لم يتمكنوا من القضاء على الإرهاب".
ورحب المجلس العسكري الحاكم في النيجر الأحد بإعلان فرنسا اعتزامها سحب قواتها من البلاد بحلول نهاية العام، معتبراً ذلك "خطوة جديدة باتجاه السيادة".
منذ انتخابه لأول مرة، حاول إيمانويل ماكرون تغيير المسار في أفريقيا، وهذا ما تجسد في خطاب له في عام 2017، ثم جدد تأكيده في فبراير/ شباط 2023، عندما حدد الخطوط العريضة لنهج أقل عسكرة يعتمد على العلاقات مع المجتمع المدني و"القوة الناعمة".
لكن تناقض مواقف باريس عرضها للانتقادات. وإذ دانت الانقلاب في النيجر، إلا أنها أيدت الانقلاب الأول في مالي عام 2020، وفي العام التالي دعمت تسلم محمد إدريس ديبي إتنو السلطة في تشاد من دون احترام العمليات الدستورية.
الأمر الواقع
وفي نهاية المطاف، جرى القبول بالأمر الواقع. ففي النيجر، بقي السفير الذي رفضت باريس استدعاءه معزولاً في السفارة الفرنسية، من دون حصانة دبلوماسية، مع اقتراب مخزون الطعام والماء من النفاد.
وفي قاعدة نيامي، وفي المواقع المتقدمة في الشمال الغربي النائي في ولام وأيولو، يجري إمداد القوات في "ظروف شبه معقدة"، وفقاً لهيئة الأركان العامة الفرنسية. وكان من الممكن أن يجد الجنود والطيارون الـ1500 الموجودون في النيجر أنفسهم بدون مهمة، بعد أن ظلت مسيراتهم ومروحياتهم ومقاتلاتهم على الأرض.
كما سرعان ما بدت فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، معزولة رغم أنها ما زالت تحتفظ بعدة قواعد في أفريقيا، كما في تشاد وساحل العاج والسنغال والغابون وجيبوتي.
وقد نأى حلفاؤها الغربيون بأنفسهم عن سياسة الحزم التي تنتهجها إزاء النيجر.
وذكرت صحيفة "وولف كوتيديان" السنغالية: "مع هذه الانتكاسة الأخيرة، ترى فرنسا أن نفوذها وسلطتها يتضاءلان بشكل كبير في غرب أفريقيا خاصة، وفي أفريقيا عموماً".
وأشار كبير الباحثين في معهد الدراسات الأمنية والمتخصص في شؤون الساحل، فهيرامان رودريغ كوني، إلى أن "فرنسا لم تعرف كيف تنسحب في الوقت المناسب، وأرادت الاستمرار في لعب دور القائد في سياق تشهد فيه البيئة الاجتماعية تغيراً كبيراً".
وسيمثل الانسحاب من النيجر تحدياً لوجستياً للجيوش الفرنسية إذا تم تنفيذه خلال ثلاثة أشهر، على خلفية تدهور الوضع الأمني في جميع أنحاء منطقة الساحل. ففي النيجر وحدها، أسفرت نحو عشر هجمات عن مقتل أكثر من مئة شخص، نصفهم من المدنيين، منذ الانقلاب.