تقييم سياسة ملكية الدولة في مصر للباحث يزيد الصايغ

التاريخ : الاثنين 12 يونيو 2023 . القسم : دراسات

بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على إطلاق الحكومة المصرية برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي في العام 1991، الذي كان يُفترض به خصخصة عددٍ كبيرٍ من الشركات المملوكة للدولة في مصر، لا تزال الحكومة تتدخّل في الاقتصاد على نطاق واسع جدًّا من خلال القوانين والتنظيمات التي تسنّها، إلى درجة أنها تحدّد عمليًا مستوى الإنتاج وتركيبته في الكثير من القطاعات الاقتصادية، ومن ضمنها تلك التي يملك غالبيتها القطاع الخاص. وفي العام 2020، أعادت الدراسة التشخيصية للقطاع الخاص في مصر، الصادرة عن مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، التأكيدعلى "أن وجود شركات مملوكة للدولة في جميع القطاعات تقريبًا يغذي هذا التصور حول النشاط واسع النطاق للدولة بل والمفرط في التوسع، في حين أن كثرة القوانين الحاكمة وأُطر الملكية التي تعمل بموجبها تلك الشركات تجعل من التعرف عليها أمرًا صعبًا ومعقدًا". وفي العام 2021، دعا صندوق النقد الدولي مصر إلى "تحقيق مركزية ملكية الدولة في كيان واحد"، والخروج من باقي الاقتصاد. يُضاف إلى ذلك أن الأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي عصفت بمصر في أوائل العام 2022 أدّت إلى تسليط الضوء على هذه القضايا بشكل غير مسبوق.

وأتى ردّ الدولة من خلال إعلان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في أيار/مايو 2022 أن الحكومة تخطّط لإعادة ترسيم دور و"حدود الدولة في الاقتصاد الوطني" بهدف تعزيز دور القطاع الخاص. وتلا ذلك إصدارها في حزيران/يونيو المسودّة الأولى لوثيقة سياسة ملكية الدولة التي تضمّنت خطة الحكومة من أجل "تخارج" الدولة كليًّا من عشرات القطاعات الاقتصادية، وتقليص دورها في بضع عشرات من القطاعات، وزيادة دورها في المقابل في قطاعات أخرى. وأجرت الحكومة أيضًا مباحثات مع القطاع الخاص وغيره من الجهات لإصدار الصيغة النهائية من وثيقة سياسة ملكية الدولة، التي وافق عليها مجلس الوزراء في 30 تشرين الثاني/نوفمبر، ثم صادق عليها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في 29 كانون الأول/ديسمبر. يُشار إلى أن الإعلان الأولي عن مسودّة وثيقة سياسة ملكية الدولة قد تزامن مع المحادثات التي كانت تجريها الحكومة مع صندوق النقد الدولي بشأن حصولها على قرض جديد من الصندوق، هو الرابع الذي تحصل عليه مصر منذ العام 2016، ما يشير إلى أن الإعلان عن السياسة الجديدة كان هدفه، جزئيًا على الأقل، تحسين العلاقات العامة. لكن حتى لو طُبِّقت فقط بعض بنود هذا الإطار السياساتي الجديد بالشكل المناسب، فسيشكّل ذلك خطوة أولى على مسار فتح الاقتصاد السياسي المصري على نطاق أوسع، ما يعزّز آفاق إحداث المزيد من التغيير التحوّلي.

لكن التوجّه الفعلي لسياسة ملكية الدولة وتأثيرها لا يزالان موضع شك. ويشي واقع أنها ليست سوى واحد من بين أطر سياساتية اقتصادية عدة أعلنت عنها الحكومة خلال فترة لا تتعدّى العشرة أشهر، بالافتقار إلى الاتساق السياساتي، وربما إلى الالتزام أيضًا. تُعدّ مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية أهمّ هذه المبادرات الإطارية، وقد سلّمتها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي في 30 تشرين الثاني/نوفمبر في إطار الاتفاق الذي توصّلت إليه مصر مع الصندوق بشأن حصولها على قرض جديد. وفيما صادقت المذكرة على سياسة ملكية الدولة باعتبارها "المقياس الهيكلي" للإنجاز، فهي وعدت في الواقع بإجراء إصلاحات أوسع نطاقًا بكثير ترتبط بالإدارة الاقتصادية والمالية العامة. والإيجابي في الموضوع أن الخروج عن سياسة ملكية الدولة سيلغيها بصفتها إطارًا سياسيًا. وعلى العكس، فإن التقيّد بسياسة ملكية الدولة من شأنه أن يلغي فعليًا المذكرة. لكن مجرّد إصدار الاستراتيجيات الرسمية قد يكون هو الهدف في حدّ ذاته، بدل أن تكون الغاية ضمان انسجامها واتّساقها معًا. فقد سبق أن التزمت الحكومة ببرنامج يرمي إلى تنفيذ إصلاحات هيكلية بموجب اتفاق مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، أي قبل أشهر من صياغة سياسة ملكية الدولة، وقبل سنة فقط من تسليم مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية إلى صندوق النقد الدولي.

وعلى نحو مماثل، تم تقديم إعلان مدبولي في شباط/فبراير 2023 عن خطة الحكومة بيع حصص في اثنتين وثلاثين شركة مملوكة للدولة إلى مستثمرين في القطاع الخاص على أنه يندرج في إطار تطبيق سياسة ملكية الدولة، لكنه حاد عنها في مسألة أساسية واحدة على الأقل. ففيما تبنّت سياسة ملكية الدولة صندوق مصر السيادي باعتباره الإطار المفضّل لديها لجذب الاستثمارات الخاصة إلى الاقتصاد المصري، أعلن مدبولي من جهته أن طرح الأسهم سيجري من خلال البورصة المصرية أو في إطار مفاوضات ثنائية مع مستثمرين استراتيجيين. وكما أشار الصحافيان في موقع "مدى مصر"، أحمد بكر وريهام السعدني، لا تُحدث قائمة الشركات المطروحة حصصها للبيع تغييرًا ملحوظًا، بل تضفي "تعديلات طفيفة على قائمة الشركات والأصول نفسها التي كانت الدولة تحاول عرضها للاستثمار الخارجي خلال السنوات الخمس الأخيرة". وفي ذلك إشارة إلى محاولة الحكومة الفاترة بدءًا من العام 2018 طرح ثلاث وعشرين شركة مملوكة للدولة للخصخصة الجزئية، لكنها أخفقت كليًا تقريبًا في ذلك. وخلال الأسابيع التي أعقبت تاريخ إعلان بيع الحصص في شباط/فبراير 2023، عمدت الحكومة، بشكل غير مدروس على ما يبدو، إلى إضافة حفنة جديدة من الشركات إلى القائمة التي ستُطرح حصصها للبيع، وحدّدت مهلة غير واقعية، تبلغ سنة واحدة لإتمام عمليات البيع. وتعزّز هذه العوامل مجتمعةً الانطباع بوجود حالة من الارتباك على مستوى السياسات وافتقار الحكومة إلى استراتيجية حقيقية أو إرادة سياسية كفيلة بالوقوف في وجه جماعات المصالح الراسخة التي عطّلت عمليات الخصخصة السابقة.

تنطبق المشاكل المرتبطة بالمصداقية أيضًا على وثيقة سياسة ملكية الدولة في حدّ ذاتها. فبعد أن أعلنت الحكومة عن إطلاق مشاورات – وشرعت فيها بالفعل – في أعقاب إصدار مسودّة هذه الوثيقة في حزيران/يونيو 2022، غابت هذه المبادرة بالكامل عن التداول العلني. ولم يظهر أي دليل يُذكر على إجراء تحضيرات سياسية في أوساط المجموعات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية – سواء أكانت قطاع الأعمال أو العمّال أو موظّفي الدولة – لتأييد إحداث التغييرات المنشودة بمثل هذا الحجم والاتساع. وقد صوّرت الحكومة المؤتمر الاقتصادي الذي عقدته في أواخر تشرين الأول/أكتوبر على أنه يختتم مشاوراتها بشأن مسودّة سياسة ملكية الدولة، لكنها في الواقع كانت تبذل قصارى جهدها للاستجابة إلى تعليق عابر أدلى به السيسي ومفاده أنه يريد أن تكون للدولة كلمتها في الشؤون الاقتصادية. وفي نهاية الأمر، لم يجرِ سوى القليل من النقاش حول سياسة ملكية الدولة في هذا المؤتمر الذي دامت فعالياته ثلاثة أيام، وتخلّلته بدلًا من ذلك مداخلات طويلة من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

تظهر المقارنة التفصيلية للمسودتَين الأولى والنهائية من وثيقة سياسة ملكية الدولة أن جوهر ما تضمّنته، أي الإطار السياساتي العام وآلياته المطروحة، لا يزال نفسه، ما عدا بعض التعديلات التحريرية الصغيرة التي أُدخلت على النص. واقتصرت التغييرات المهمة على إعادة تصنيف بعض القطاعات والأنشطة الاقتصادية: أي من تلك التي ستتخارج منها الدولة كليًا لصالح القطاع الخاص، إلى تلك التي ستتخارج منها جزئيًا، أو تلك التي ستحافظ فيها على دورها، أو العكس. وانحصرت أهمية هذه التغييرات المحدّدة في ما تكشفه عن جماعات المصالح الاقتصادية التي مارست ضغوطًا لإدخال تلك التغييرات، وعمّا اعتبره معدّو الوثيقة مسموحًا أم لا. لكن الأهم أن القسم الذي يتطرّق إلى مبرّرات الإبقاء على ملكية الدولة وتدخّلها في مختلف أجزاء الاقتصاد – أو حتى زيادتهما – لم يتغيّر البتة.

وأخيرًا، يتعيّن على الحكومة المصرية التصدّي لجملةٍ من التحديات الكبرى إذا أرادت أن يُكتب النجاح لسياسة ملكية الدولة. ولكن من المستبعد حدوث ذلك. فكما تظهر المقالات التي يضمّها هذا الملفّ بين دفّتيه، تُعدّ سُبل تمويل هذه السياسة مُبهمة وموضع شك. قد يكون بيع الحصص في الشركات المملوكة للدولة والمدرّة للربح الوسيلة الوحيدة أمام الحكومة لتأمين رأس المال الذي تشتدّ الحاجة إليه، لكن ذلك من شأنه أن يحرمها من بعض العائدات المضمونة. يُشار إلى أن انحياز إدارة السيسي المفرط نحو القطاعات غير القابلة للتداول (أي غير السلعية وغير القابلة للتصدير) قد قوّض على نحو أكبر زيادة الإنتاجية والرِبحية في القطاعات القابلة للتداول، وساهم في تعميق الشرخ بين حاجة البلاد إلى رأس المال الاستثماري وقدرة الاقتصاد على توليده. وقد أعاقت بالفعل التأجيلات والانسحابات مسار المفاوضات مع "المستثمرين الاستراتيجيين" من بين شركاء مصر وحلفائها في الخليج. أخيرًا وليس آخرًا، غالب الظن أن اتّباع استراتيجية منقسمة تُطبَّق على الهيئات المدنية المملوكة للدولة فحسب، فيما تمنح إعفاءات للهيئات العسكري، وتمنح إعفاءات للهيئات العسكرية (سواء بحكم القانون أو بحكم الواقع)، سيحول دون تعزيز دور القطاع الخاص، وهو ما تزعم سياسة ملكية الدولة أنها تسعى إلى تحقيقه.

بغضّ النظر عن العيوب والتناقضات الجوهرية التي تنطوي عليها وثيقة سياسة ملكية الدولة، فهي لا تبدو كافية أساسًا لحلّ الأزمة التي تتخبّط فيها مصر، إذ إن المشكلة الحقيقية ترتبط بالنية والمصداقية. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: إلى أي مدى تملك الحكومة المصرية فعليًا الإرادة لتطبيق بنود مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية، أو بالأحرى، وهذا ليس أقلّ مدعاةً للقلق، ما مدى قدرتها على ذلك، في مواجهة أفرقاء نافذين سياسيًا ومترسّخين في مواقعهم، ومن ضمنهم رئيس الجمهورية والمؤسسة العسكرية الناشطة اقتصاديًا؟