الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على السياسة الخارجية
مصر تواجه أزمة اقتصادية متفاقمة وتسعى لتحقيق توازن بين التقشف والاستقرار الاجتماعي. تدهور الأوضاع المالية مثير للقلق بسبب النمو الاقتصادي الضعيف ونقص العملات الأجنبية. مصر قد تتبنى إجراءات اقتصادية جذرية للحصول على مساعدات مالية. تعثر المفاوضات مع الصندوق يمكن أن يؤدي إلى تدهور الوضع الاقتصادي.
في ظل أزمتها الاقتصادية المتفاقمة، ستحاول مصر أن توازن بين التقشف الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فقد أثارت البيانات الأخيرة مخاوف بشأن الاستقرار المالي في مصر على المديين القريب والبعيد؛ حيث شهدت البلاد نموًا اقتصاديًا أبطأ من المتوقع في تموز/ يوليو. كما أظهرت بيانات البنك المركزي الصادرة منتصف شهر آب/ أغسطس الجاري أن صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك التجارية بلغ عجزًا قياسيًا في حزيران/ يونيو، وسط نقص تدفق العملات الأجنبية. إن هذا النقص في العملة الصعبة يسلّط الضوء على المشكلات الخطيرة التي تواجه ميزان المدفوعات، بما في ذلك عبء الديون الخارجية الكبير وارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة، رغم التدخلات المكلفة من قبل البنك المركزي.
علاوةً على ذلك، تواجه مصر حاليًا نقصًا حادًا في الكهرباء بالتوازي مع موجة حر شديدة، الأمر الذي أثار استياء كبيراً لدى المواطنين، وهو ما يتضح من العدد المتزايد من المصريين الذين لجؤوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة، للتعبير عن غضبهم وإحباطهم من الحكومة. ومع أن تدهور الوضع الاقتصادي عام 2022 دفع الحكومة إلى البحث عن تمويل خارجي من خلال صندوق النقد الدولي، فإن توقعات عام 2023 لا تبشر بأي تحسن حيال هذه الأوضاع.
من جهته، أخّر صندوق النقد الدولي صرف الدفعة الثانية من الأموال لعدة أشهر، بسبب معارضة مصر لتنفيذ إصلاحات لا تحظى بشعبية. ومن بين الإصلاحات المطلوبة من قبل الصندوق إجراء تخفيضات إضافية على الأرجح لقيمة الجنيه المصري، ما سيمكّن الحكومة من سداد التزامات ديونها الخارجية وجذب الاستثمار الأجنبي. ومع ذلك، فإن مثل هذه التعديلات في سعر الصرف قد تجعل الواردات أكثر تكلفة، وتقلل من قيمة مدخرات المصريين، وتخفض القوة الشرائية للأسر.
بالمقابل، ولتجنب الاحتجاجات والاضطرابات، ستقوم مصر على الأغلب بتنفيذ إصلاحات كبيرة بما يكفي لصرف مساعدات الصندوق؛ فقد تقوم السلطات على سبيل المثال بفرض ضرائب جديدة تساعد في توليد الإيرادات، مع تجنب خفض الدعم على السلع الحساسة اجتماعيًا (بما فيها الخبز) وإجراء تخفيضات حادة في قيمة العملة المحلية.
رغم ذلك، فإن المفاوضات بين القاهرة وصندوق النقد الدولي يمكن أن تنهار، لكن هذا السيناريو غير مرجح لأن القاهرة ترفض تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية بسبب المخاطر السياسية والاجتماعية. إن هذا السيناريو سيتسبب على الأرجح في تفاقم حالة الضبابية على مستوى الاقتصاد الكلي، وانخفاض احتياطيات العملات الأجنبية، وانهيار معنويات المستثمرين الأجانب والمحليين.
لكن السيناريو الأكثر استبعادًا هو امتثال مصر الكامل لمطالب الصندوق؛ والذي يقضي بأن تطرح الحكومة سريعًا إصلاحات كبيرة؛ مثل تخفيضات كبيرة في قيمة العملة، وفرض ضرائب جديدة وإصلاحات كبيرة على الدعم، أملًا في أن تتمكّن القاهرة من خدمة ديونها الخارجية وتنمية اقتصادها.
بعيدًا عن الصندوق، من المرجح أن تتمكن مصر من الحصول على مزيد من الأموال من مقرضين آخرين، ما قد يسرّع التعافي الاقتصادي في البلاد بشكل أكبر. وفي حين أن هذه الإجراءات من شأنها أن ترفع تكاليف المعيشة على المصريين بشكل حاد، ما سيزيد من خطر الاحتجاجات، فلن تختار الحكومة هذا المسار إلا إذا رأت أن المخاطر السياسية والاجتماعية لتنفيذ الإصلاحات ضئيلة أو يمكن قمعها بسهولة بالقوة.
سياسة خارجية متعرجة لتحسين الاقتصاد قبيل الانتخابات
على صعيد السياسة الخارجية، سوف تستمر مصر على الأرجح في تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية؛ حيث تعتمد القاهرة على سياسة التهدئة والمصالحة بين القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من خلال إصلاح العلاقات مع تركيا وحل المأزق الذي طال أمده مع إثيوبيا بشأن "سد النهضة". ومع استمرار مصر في مواجهة الصعوبات الاقتصادية، بما فيها ارتفاع معدلات التضخم وضغوط العملة، يُعتقد أن تواصل الإدارة الحالية البحث عن مكاسب اقتصادية وسياسية قصيرة المدى، خصوصًا في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية في الربع الثاني من عام 2024.
من ناحية أخرى، سيظل مجال المناورة في السياسة الخارجية مقيّدًا بأولوية مصر المباشرة والمتمثلة في جذب التمويل الأجنبي، خاصةً من دول الخليج، لمعالجة الاختلال في سوق العملات الأجنبية. إلا أن هذا الاعتماد المالي على الآخرين يضع قيودًا على السياسة الخارجية لمصر، ما يشير إلى أن استراتيجية إصلاح العلاقات إما أن تقع ضمن اتجاه السياسة الخارجية الأوسع لدول مجلس التعاون الخليجي أو على الأقل لا تتعارض معها.
تطورات العلاقة مع تركيا
في هذا الإطار، ستؤدي استعادة العلاقات الدبلوماسية رسميًا بين مصر وتركيا إلى زيادة العلاقات التجارية والاستثمارية، وتحسين أمن الحدود مع ليبيا، والمساعدة في حل معضلة الطاقة شرق المتوسط. بدورهم، أعرب المستثمرون الأتراك عن اهتمامهم بالاستثمار في قطاعات السيارات والطاقة والقطاع الطبي بمصر، وهو ما يتماشى مع جهود السلطات المصرية لجذب رؤوس الأموال بصورة دائمة، في شكل استثمار أجنبي مباشر لتغطية احتياجات البلاد الكبيرة من التمويل الخارجي. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتطور العلاقات التجارية بشكل أكبر؛ ففي عام 2022 وصلت هذه القيمة إلى 7.1 مليار دولار، فيما تعتزم البلدان مضاعفتها على مدى خمس سنوات.
علاوةً على ذلك، فإن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين من شأنها أن تساعد مصر على تعزيز قطاع السياحة في تركيا، خصوصًا وأن مصر بدأت منح التأشيرة للزوار الأتراك عند الوصول، وجذب المزيد من عائدات العملات الأجنبية. كما زادت تركيا من التضييق على الإخوان المسلمين المقيمين على أراضيها، وهو ما يتماشى مع أهداف الإدارة المصرية الحالية ويساعد أيضًا في تعزيز الاستقرار السياسي في مصر؛ حيث يُفقد الجماعة داعمًا رئيسيًا. وفي ليبيا يدعم البلَدان الأطراف المتعارضة؛ حيث من شأن التقارب بين القاهرة وأنقرة أن يعزز الأمن ويقلل من مخاطر القتال على طول حدود مصر الغربية.
أما في ملف شرق المتوسط، فإن كانت النزاعات حول الحدود ومناطق الغاز ستؤدي إلى مزيد من نوبات التوتر بين مصر وتركيا، فإن التقارب الأخير يمكن أن يشجع على مزيد من التعاون بين البلدين. وقد يشمل ذلك إحراز تقدم في خط أنابيب شرق المتوسط المدعوم من اليونان، ما سيعزز طموح مصر كمركز لتصدير الغاز الطبيعي المسال. لكن بالمقابل، وعلى المدى الطويل، فإن المشاريع الجيوسياسية التركية في الشرق الأوسط والبحر الأحمر يمكن أن تزيد من تصور مصر بأنها محاصرة، وهو ما قد يتسبب في تصعيد التوترات بصورة مفاجئة بين الجانبين.
مستقبل ملف "سد النهضة"
على صعيد آخر، فإن إعادة تعامل مصر مع إثيوبيا لحل التوتر المستمر منذ عقد من الزمن بشأن "سد النهضة"، من شأنها أن تضمن الأمن المائي والمكاسب السياسية لمصر؛ ففي الـ13 من تموز/ يوليو أعلن الطرفان أنهما يهدفان إلى وضع اللمسات الأخيرة لاتفاق بشأن حل النزاع بخصوص ملء وتشغيل السد خلال الأشهر الأربعة المقبلة. بدورهما، تريد مصر والسودان (الطرف الثالث في مفاوضات سد النهضة) إبرام عقد ملزم يعترف به القانون الدولي، بينما تسعى إثيوبيا إلى وضع مبادئ توجيهية غير ملزمة.
وقد تنجح كل من مصر وإثيوبيا هذه المرة في التوصل لاتفاق، وذلك لعدة أسباب:
أولًا: تعتبر الظروف الدولية مواتية لإنهاء هذا الصراع وصرف الدعم المالي من الدول الغربية لأديس أبابا.
ثانيًا: يمكن لدور مصر كوسيط في الصراع السوداني أن يسهّل هذا الدور.
ثالثًا: يمكن أن تمثل العلاقات الوثيقة بين إثيوبيا والإمارات ضغوطًا غير مباشرة على القاهرة لتوقيع صفقة، خصوصًا وأن الإمارات هي الداعم الأجنبي الرئيسي لمصر (معظم صفقات الخصخصة التي تبلغ قيمتها 1.9 مليار دولار في مصر والتي تم الإعلان عنها في تموز/ يوليو 2023 كانت من قبل كيانات ذات صلة بالإمارات).
وعليه، فإن التوصل لاتفاق ناجح قد يساعد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في تحقيق نجاح سياسي قبيل الانتخابات الرئاسية المقررة في الربع الثاني من عام 2024. وإن كان "السيسي"، الموجود في السلطة منذ عام 2014، لم يعلن بعد عن نيته للترشح للانتخابات فمن المرجح أنه سيفعل ذلك في الأشهر المقبلة.