الصراع بين القوات المسلحة السودانية والدعم السريع: الأسباب والتداعيات المحتملة
دخل السودان الذي يعاني جملة أزمات سياسية واقتصادية، وتوترات عرقية وقبلية، في صراع جديد، أطرافه هذه المرة القوتان العسكريتان الرئيستان في البلاد. وسوف يكون لهذا الصراع على الأرجح تداعيات كبرى خاصة إذا طال.
عد توتر طويل وتراشق إعلامي، انفجر في 15 نيسان/ أبريل 2023 الصراع بين قيادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (تأسست عام 2013)، على شكل اشتباكات مسلحة عنيفة، بدأت داخل العاصمة السودانية الخرطوم وانتقلت منها إلى مدن أخرى؛ ما أسفر بعد خمسة أيام عن سقوط نحو 300 قتيل و3000 جريح، بحسب منظمة الصحة العالمية[1].
وجاءت المواجهات الأخيرة على خلفية خلافات نشبت بين قيادة الجيش، ممثلة بالفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بشأن الجدول الزمني المقترح لدمج قوات الدعم في صفوف القوات المسلحة بموجب الاتفاق الإطاري الذي جرى التوصل إليه في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2022[2]، لحل الأزمة السياسية المستمرة في البلاد، منذ انقلاب الجيش على حكومة عبد الله حمدوك في تشرين الأول/ أكتوبر 2021. لكن المواجهات تخفي صراعًا أعمق على السلطة والنفوذ والموارد بين الطرفين العسكريين الرئيسين في البلاد، وحلفائهما في الخارج.
أسباب تفجر الصراع
تفجرت الأزمة، بعد محاولة قوات الدعم السريع الاستيلاء على قاعدة جوية للجيش في مروي، وإعلان القوات المسلحة السودانية في بيان أذاعه الناطق الرسمي باسمها، يوم 13 نيسان/ أبريل 2023، أشار فيه إلى تحركات قوات الدعم السريع وانتشارها في مناطق عدة من العاصمة، من دون موافقة القوات المسلحة السودانية أو حتى التنسيق معها[3].
لكن مؤشرات وجود تنافس بين الطرفين كانت قائمة، منذ تشكيل مجلس السيادة الذي تولى السلطة لمرحلة انتقالية بعد إطاحة حكم الرئيس عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019؛ فقد تولى قائد الجيش، البرهان، رئاسة مجلس السيادة بينما تولى قائد قوات الدعم السريع، حميدتي، منصب نائب رئيس المجلس. وأخذت الخلافات تظهر للعلن، بعد أن اتخذ الجيش، تسانده قوات الدعم السريع، قرارًا بحل مجلس السيادة الذي يتكون من مدنيين وعسكريين، وإقالة حكومة رئيس الوزراء الانتقالي، عبد الله حمدوك، واستلام السلطة مباشرة في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
منذ ذلك الوقت، بدأ الطرفان بإنشاء تحالفات خاصة بكليهما مع القوى المدنية المنقسمة بدورها؛ ففي حين حاول حميدتي النأي بنفسه عن انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وتقديم نفسه باعتباره مؤيدًا لانتقال السلطة إلى القوى المدنية، والعمل على تحسين صورته منذ دوره في دارفور بتكليف من عمر البشير وحتى ارتكاب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019، اتهم حميدتي البرهان بالسعي إلى استمالة قوى محسوبة على النظام السابق، وفق تصريحات علنية له في 20 شباط/ فبراير 2023[4]. وقد رد البرهان بتحذير قوات الدعم السريع من أنها تتصرف بوصفها قوة مستقلة عن الجيش، وطالب بالإسراع بدمجها فيه[5]. وقد تحولت قضية الدمج إلى عامل رئيس، أدى في نهاية المطاف إلى تفجر الصراع. وقد دعا ذلك حميدتي إلى التقارب أكثر مع القوى السياسية والمدنية وتبني مطالبها داخل ورشات التفاوض في الاتفاق الإطاري، بحثًا عن حاضنة سياسية تدعمه في صراعه مع البرهان وقيادة الجيش، بما في ذلك المطالب الخاصة بإدراج بند خروج الجيش من العملية السياسية وامتثاله لحكومة مدنية يجري تشكيلها وفقًا للاتفاق الإطاري[6]. لكن البرهان ربط دعم الجيش لهذا الاتفاق بالتنفيذ العاجل لبند دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة[7].
في الورشة الختامية للاتفاق الإطاري، والتي جاءت بعنوان "الإصلاح الأمني والعسكري"، لم يحضر ممثل القوات المسلحة السودانية؛ ما عُد حينها مؤشرًا دالًا على عدم موافقة قيادة الجيش على مجريات التفاوض، خاصة فيما يتعلق بالجدول الزمني المقترح لعملية دمج قوات الدعم السريع في الجيش. فقد اقترحت فترة عشر سنوات لاستكمال عملية الدمج، بينما طالبت القوات المسلحة بحد زمني أقصاه سنتان، أي مع انقضاء المدة المقترحة للفترة الانتقالية الجديدة[8]. وقبل انعقاد الورشة، طالب حميدتي بإخراج مسألة الإصلاح الأمني والعسكري من النقاش[9]؛ ما اعتبر مؤشرًا على رفضه مقترح إدماج قواته في الجيش، وإبقائها خارج مؤسسة القوات المسلحة السودانية، في مسعى للحفاظ على استقلالية نفوذه وسلطته الاقتصادية بعيدًا عن الجيش. ويبدو أن هذا الأمر أفضى في نهاية المطاف إلى صراع مفتوح.
ويبدو أن الجيش لم يكن راضيًا عمومًا عن نتائج الاتفاق الإطاري؛ لأنه يسعى إلى الحد من تدخله في السياسة، في حين أنه يعطي تحالف القوى المدنية قوة أكبر، بما في ذلك السيطرة على القوات المسلحة. وجاء في المبادئ العامة، الفقرة (14) من الاتفاق الإطاري أن "السلطة الانتقالية سلطة مدنية ديمقراطية كاملة دون مشاركة القوات النظامية". وجاء في البند الرابع تحت عنوان الأجهزة النظامية، الفقرة (2): "يكون رأس الدولة قائدًا أعلى للقوات المسلحة"، وتؤكد الفقرة (5) حظر جميع الأنشطة التجارية والاستثمارية للقوات المسلحة، عدا تلك التي تتعلق بالتصنيع الحربي والمهمات العسكرية، وتحويل الإشراف على كل الشركات التابعة للقوات المسلحة إلى وزارة المالية. وهذا يعني أن الاتفاق الإطاري يجرد عمليًّا المؤسسة العسكرية من نفوذها السياسي ومواردها الاقتصادية المستقلة عن سلطة الحكومة، رغم أن الفقرة (3) من بند القوات المسلحة تجيز لمجلس الوزراء إشراك القوات المسلحة في مهمات ذات طبيعة غير عسكرية[10]. لهذه الأسباب، لم يدعم الجيش الاتفاق الإطاري، بخلاف موقف قوات الدعم السريع التي حاولت الاستقواء على الجيش بالاتفاق الذي توصلت إليه القوى السياسية والمدينة.
كان هذا في جوهره صراعًا على السلطة بين عسكريين باستغلال الخلاف بين القوى المدنية، وغاب عن الجميع أن وجود جيش واحد هو شرط لاستقرار الدولة، والذي هو شرط لأي انتقال ديمقراطي.
مواقف القوى والتيارات السياسية الداخلية من صراع حميدتي - البرهان
تباينت توجهات القوى السياسية الرئيسة في البلاد من الصراع الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع؛ إذ لزم بعضها الصمت، بينما دعا أكثرها إلى وقف القتال وتجنيب البلاد مخاطر الفوضى والانزلاق إلى حرب أهلية طويلة[11]. وقد عبر عن هذا الموقف البيان الصادر عن قوى الحرية والتغيير -المجلس المركزي في اليوم الثاني للاشتباكات؛ حيث دعا إلى التهدئة ووقف القتال فورًا والعودة إلى طاولة الحوار والتفاوض[12]. وفي الاتجاه نفسه، جاء موقف قوى الحرية والتغيير -الكتلة الديمقراطية[13]. أما التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية، فقد اعتبر في بيان رسمي أن الاتفاق الإطاري هو سبب الأزمة الحالية؛ باعتبار أنه لا يعبر عن مصالح مختلف القوى السياسية في البلاد[14]. ورغم أن التيار الإسلامي العريض لم يخرج بأي تصريح رسمي عبر قنواته الرسمية، فإن رئيسه محمد علي الجزولي عبّر في تسجيل على صفحته الرسمية على فيسبوك عن انحيازه إلى القوات المسلحة ضد من أسماهم "وكلاء المشروع الأجنبي"[15]. وخرجت حركة المستقبل للإصلاح والتنمية، عبر صفحة أمينها العام هشام عثمان الشواني، ببيان أكدت فيه وقوفها "مع قوات الشعب المسلحة في مواجهة العدو المتمرد"، أي قوات الدعم السريع، واعتبرت الحركة في بيانها أن هذه معركة "ضد المشروع والمخطط الأجنبي لتفكيك البلاد وقوات الشعب المسلحة"[16]. في المقابل، عبر تحالف قوى التغيير الجذري، وهو تحالف يضم الحزب الشيوعي السوداني وتجمع المهنيين السوداني الجناح المنشق، وأسر الشهداء واتحاد مزارعي الجزيرة، في بيان نشره على صفحته الرسمية على فيسبوك قبل اندلاع القتال عن رفضه التحركات العسكرية للطرفين، ورأى أن هذا الصراع تقوده محاور إقليمية ودولية، وأنه صراع على الموارد والنفوذ[17]. وفي بيان صحافي صدر يوم 15 نيسان/ أبريل 2023، دعا التحالف إلى وقف الحرب وحمّل قيادات الجيش والدعم السريع أي خسائر تقع في أوساط المدنيين[18]. ودعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، في بيان نُشر على صفحة الحزب الرسمية على فيسبوك، إلى وقف فوري لإطلاق النار وخروج الجيش والميليشيات من المدن[19]. وخرجت تنسيقيات لجان المقاومة - ولاية الخرطوم ببيان دعت فيه إلى نبذ الحرب، ووصفت حميدتي والبرهان بأنهما "عدوان للثورة"[20].
والواقع أن القوى المدنية لا تنقسم في موقفها من الأطراف المتحاربة والحرب في حد ذاتها بين علمانية ودينية، ولا بين يسار ويمين، بل بين قوى موقعة على الاتفاق الإطاري وقوى غير موقعة وتشمل اليسار والإسلاميين وغيرهم.
مواقف الأطراف الدولية والإقليمية
لم يتخذ أيّ من الأطراف الإقليمية موقفًا واضحًا من الصراع الدائر في السودان، وسارعت مصر ودولة جنوب السودان إلى عرض الوساطة لوقف القتال، بينما دعت مصر والمملكة العربية السعودية إلى اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية لمناقشة الوضع في السودان[21]. ولمصر والسعودية مصالح كبرى في استقرار السودان؛ إذ تعدّ السعودية أكبر مستثمر أجنبي في البلاد، خاصة في القطاع الزراعي[22]، في حين تعتبر مصر السودان عمقها الاستراتيجي وتعدّ موقفه بالغ الأهمية في الصراع الدائر حول سد النهضة مع إثيوبيا التي طالب رئيس وزرائها، آبي أحمد، بوقف القتال والعودة إلى مسار الحوار، عارضًا الوساطة بين الجانبين[23]. دوليًا، طالب الاتحاد الأوروبي بوقف القتال في السودان ودخول الأطراف في حوار[24]، ودعا بعد تعرض سفيره في الخرطوم لاعتداء[25]، إلى حماية البعثات الدبلوماسية وفق القانون الدولي. وينظر الاتحاد الأوروبي باهتمام كبير إلى تطورات الوضع في السودان، خشية حصول موجة هجرة جديدة مصدرها السودان والقارة الأفريقية؛ حيث كانت قوات الدعم السريع خصوصًا تضطلع بدور كبير في الحد من تدفق الهجرة عبر الصحراء بين ليبيا وتشاد والسودان، في مقابل مساعدات مالية[26]. أما الولايات المتحدة، فقد أجرى وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، مكالمات هاتفية مع الطرفين مطالبًا بوقف القتال وحماية البعثات الدبلوماسية، وخصوصًا بعد تعرض قافلة دبلوماسية أميركية لإطلاق نار اُتهمت فيها قوات الدعم السريع[27]. ومن غير الواضح حتى الآن إن كانت واشنطن تفضل العمل مع أحد طرفي الصراع، في ضوء العلاقات التي تربط حميدتي بقوات فاغنر الروسية. ودعت الصين إلى إنهاء القتال في أقرب وقت ممكن، ومنع تصعيد التوترات[28]. ورغم أن السودان لم يعد، بعد انفصال الجنوب، موردًا مهمًا للنفط بالنسبة إلى الصين، فإنها لا تزال شريكًا اقتصاديًا رئيسًا له، ومستثمرًا نشطًا في العديد من القطاعات، بما في ذلك قطاع التعدين[29]. ولا يبدو حتى الآن أن روسيا قد اختارت جانبًا في الصراع، رغم التعاون الكبير بين قوات الدعم السريع ومجموعة فاغنر، ومحوره تمويل قوات الدعم وتأمين تدفق كميات كبيرة من الذهب (واليورانيوم) من السودان لدعم مساعي روسيا القائم على بناء احتياطيات ضخمة من الذهب والمعادن في وجه العقوبات الغربية[30]، إضافة إلى محاولاتها إقامة قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، وهو المشروع الذي قوبل برفض غربي كبير.
أما إسرائيل التي ترتبط بعلاقات قوية بطرفي الصراع السوداني، فلم يخرج موقفها عن الدعوة إلى وقف القتال؛ على اعتبار أن تفجر المواجهات العسكرية قد يؤجّل توقيع اتفاق التطبيع مع السودان، حيث تأمل حصول ذلك قبل أن يُنقَل الحكم في الخرطوم إلى جهة مدنية[31]. في حين ترى بعض المصادر أن إسرائيل تميل أكثر إلى حميدتي الذي تربطه علاقات قوية بجهاز الموساد.
خاتمة
دخل السودان الذي يعاني جملة أزمات سياسية واقتصادية، وتوترات عرقية وقبلية، في صراع جديد، أطرافه هذه المرة القوتان العسكريتان الرئيستان في البلاد. وسوف يكون لهذا الصراع على الأرجح تداعيات كبرى خاصة إذا طال، وتدخلت أطراف إقليمية ودولية لدعم أحد الطرفين؛ ما يهدد بتفكك البلد وانهيار السلطة المركزية التي تواجه اضطرابات واحتقانًا قبَليًا وإثنيًا في الشرق والغرب والنيل الأزرق. والواضح أن الجانبين يحاولان استمالة الأطراف الدولية في صراعهما. فحميدتي يحاول أن يصور نفسه بأنه يخوض معركة بعض القوى المدنية ضد الجيش وتحالفه المزعوم مع الإسلاميين المؤيدين لنظام الحكم السابق، ويسعى إلى تدويل الصراع بادعائه أكثر من مرة أن طائرات حربية أجنبية قصفت مواقع تابعة لقواته[32]. في المقابل، يحاول البرهان تصوير معركته بأنها معركة الدولة ضد الميليشيا والفوضى، ويحاول بذلك استمالة الجارة مصر التي لا تبدي ارتياحًا كبيرًا لدور حميدتي وشبكة علاقته الإقليمية.
وفي جميع الحالات، إذ لم تحسم المعركة أو يجري التوصل إلى تسوية تقود إلى وحدة الجيش السوداني، بصفتها مقدمة لنقل السلطة إلى القوى السياسية المدنية، فلن تكون هذه للأسف آخر القلاقل المسلحة التي تعصف بهذا البلد التائق إلى الاستقرار والتنمية.