أتلانتك كاونسل: حل لغز الاقتصاد السياسي في مصر.. إنه أكثر من مجرد اقتصاد
في حين قد يواجه المستثمرون حالة من عدم الاستقرار السياسي، فإن عدم اليقين في السياسة الاقتصادية يمنع الشركات من التوظيف والاستثمار والوصول إلى الأسواق. ولذلك، لمعالجة التحديات الأساسية التي تواجه الاقتصاد المصري، لا بد من تقييم ومعالجة متطلبات الاقتصاد السياسي، وليس فقط التركيز على أساسيات الاقتصاد الكلي.
نشرت مجلة أتلانتك كاونسل تقريرًا للكاتبة رشا حلوة تستعرض أبعاد الأزمة الاقتصادية في مصر وكيف أنه جذورها لا تقتصر على الاقتصاد، بل تُغذيها عوامل أخرى.
وتقول الكاتبة إن مصر بلد ينعم بالموارد الطبيعية والمزايا الجغرافية الفريدة. وتقع مصر على مفترق الطرق بين أفريقيا والشرق الأوسط، ويبرز موقع مصر الاستراتيجي من خلال أهمية قناة السويس، وهي طريق بحري حيوي يربط أمريكا الشمالية وأوروبا بالمحيط الهندي. وتعد هذه القناة واحدة من أكثر الممرات الملاحية ازدحامًا على مستوى العالم، مما يؤكد دور مصر المحوري في التجارة الدولية.
وعلاوة على ذلك، تشتهر مصر بتراثها الثقافي الغني، إذ تضم سبعة مواقع مدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. ومن بين هذه الكنوز الهرم الأكبر بالجيزة، وهو أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. وتضع جاذبية التراث الثقافي لمصر، إلى جانب تكاليف السفر التنافسية بسبب الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه المصري، البلاد باعتبارها وجهة سفر محورية ذات إمكانات هائلة لإيرادات السياحة.
وبالإضافة إلى ثروتها الثقافية، تمتلك مصر قاعدة كبيرة من رأس المال البشري، إذ يبلغ عدد سكانها حوالي 115 مليون نسمة، يمثلون حوالي 1.4% من سكان العالم. ومن الجدير بالذكر أن 60% من سكان مصر هم تحت سن الثلاثين، مما يسلط الضوء على وجود قوة عاملة كبيرة تستعد لدخول سوق العمل.
وتستفيد مصر أيضًا من وفرة ضوء الشمس وسرعة الرياح المرتفعة، مما يجعل البلاد موقعًا مثاليًا لمصادر الطاقة المتجددة. ويتمتع سوق الطاقة المتجددة المزدهر في مصر بإمكانات اقتصادية كبيرة تصل إلى مليارات الدولارات.
تحديات مستمرة رغم الموارد
ومع ذلك، وحسب ما تضيف الكاتبة، وعلى الرغم من كل المزايا الكامنة في مصر، ظل الاقتصاد يتصارع مع تحديات مستمرة منذ ما يقرب من خمسة وسبعين عامًا. ولا تزال معدلات الفقر المرتفعة تعاني منها البلاد، وتشير إحصائيات البنك الدولي إلى ارتفاع معدل الفقر، مع زيادة نسبة السكان تحت خط الفقر من 25.2% في عام 2010 إلى 32.5% في 2017-2018.
كما ظلت إيرادات السياحة في مصر متواضعة، ذلك أن متوسط تلك العائدات بلغ حوالي 8 إلى 9 مليارات دولار سنويًا بين عامي 2014 و2022، على الرغم من إمكانات البلاد كوجهة سياحية رئيسة. وبالمقارنة، حققت دولة الإمارات العربية المتحدة باستمرار دخلًا سياحيًا أعلى، حيث بلغ متوسطه حوالي 30 مليار دولار سنويًا خلال الفترة نفسها، ومن المتوقع أن يصل إلى 60 مليار دولار بحلول عام 2028.
تتفاقم هشاشة الاقتصاد بسبب اعتماده على مصادر الإيرادات المتقلبة، بما في ذلك السياحة وقناة السويس والتحويلات الأجنبية. ولذلك، فإن الصدمات الخارجية - مثل الجائحة، وحرب أوكرانيا، وحرب غزة، والهجمات الأخيرة على البحر الأحمر - وضعت ضغوطًا اقتصادية إضافية على مصر. ونتيجة لذلك، تحول الحساب الجاري، الذي أغلق بفائض متوسطة 2 مليار دولار بين عامي 2002 و2007، إلى عجز كبير قدره 16 مليار دولار بحلول نهاية عام 2022، ومن المتوقع أن يستقر عند 9 مليارات دولار بحلول نهاية عام 2024.
ونتيجة لذلك، شهد الجنيه المصري انخفاضًا كبيرًا في قيمته، وفقد أكثر من 70% من قيمته منذ أوائل عام 2022، مما جعله سادس أسوأ العملات أداءً على مستوى العالم منذ بداية هذا العام. وأدى تأخر التعديلات على سياسة الصرف الأجنبي إلى ظهور سوق موازية، حيث انخفض الجنيه المصري إلى 68-70 جنيهًا مصريًا للدولار الأمريكي، مقارنة بسعر ثابت قدره 30-31 جنيهًا مصريًا للدولار في القطاع المصرفي الرسمي. كما تضاءلت احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية، وقد انخفضت من 44.6 مليار دولار في عام 2019 إلى 32 مليار دولار بنهاية عام 2022.
أسباب المشكلة الاقتصادية
وتتابع الكاتبة: لكن لماذا تواجه مصر، رغم إمكاناتها الكبيرة، مثل هذه العقبات الاقتصادية الملحوظة؟ ورغم أن عديدًا من خبراء الاقتصاد يربطون الأزمة بسوء إدارة الاقتصاد الكلي، ويعترفون بأهمية استقرار الاقتصاد الكلي لتحقيق النمو، فإن هذا التفسير لا يجسد التعقيد الكامل للقضية.
وبدلًا من ذلك، من الممكن أن نفهم التحول الاقتصادي البطيء والمتواضع نسبيًا في مصر بشكل أفضل من خلال عدسة نظرية الاقتصاد السياسي للأفكار. وتؤكد هذه النظرية، التي أوضحها الخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد في بحثه بعنوان "الأفكار مقابل المصالح في صنع السياسات"، على الدور المحوري الذي تلعبه الإيديولوجية باعتبارها حافزا لتشكيل السياسة العامة والتغيير المؤسسي.
وتوضح الكاتبة أن مفهوم الأيديولوجية أو تأثير الأفكار هو مبدأ أساسي في الاقتصاد السياسي، ويقدم نظرة ثاقبة حول الأسباب التي تجعل بعض الدول تتقدم بسرعة أكبر من غيرها، وعلى العكس من ذلك، لماذا تتخلف بعضها عن الركب.
تاريخيًا، التزمت الأيديولوجية الاقتصادية في مصر لفترة طويلة بنهج الانغلاق على الذات واستبدال الواردات في ظل نظام جمال عبد الناصر (1950-1970)، وهو اتجاه شائع بين الاقتصادات النامية خلال عصر إنهاء الاستعمار. وتضمنت السمات الرئيسة لنظام عبد الناصر تأميم الأصول الخاصة، وإدارة مؤسسات الدولة، واستبدال الواردات، والقيود على الصادرات.
وفي وقت لاحق، سعى نظام أنور السادات (1970-1981) إلى عكس هذا الاتجاه من خلال تقديم تشريع جديد للاستثمار مؤيد للسوق يُعرف باسم سياسة الباب المفتوح. ومع ذلك، فقد رُفضت أيديولوجيته على نطاق واسع، كما يتضح من أعمال شغب الخبز عام 1977. وفي عام 1981، وصل حسني مبارك إلى السلطة في أعقاب أعمال الشغب هذه، مما منعه من البدء في إصلاحات جوهرية مماثلة.
وبدلًا من ذلك، استخدمت حكومته نهجًا مختلطًا، فنفذت سياسات جزئية ومجزأة مؤيدة للسوق في حين اعتمدت على بقايا قوية من عصر عبد الناصر. ويستمر هذا النمط حتى يومنا هذا. وقد تجلت هذه الإيديولوجية المختلطة، على سبيل المثال، في التقدم البطيء لبرنامج إدارة الأصول العامة (الخصخصة)، والحجم الكبير نسبيا للقطاع العام في الاقتصاد.
ومع ذلك، لكي تتبنى أي دولة موقفًا مؤيدًا للسوق بشكل كامل، يجب أن تمتلك التزامًا أيديولوجيًا قويًا بالسياسات المؤيدة للسوق وحوافز سياسية واضحة لتعزيز هذه الأيديولوجية. وعلى سبيل المثال، كان اعتماد برنامج التصنيع القائم على التصدير في كوريا الجنوبية (1962-1980) مسترشدًا برؤية طويلة المدى للانضمام إلى مصاف الدول الأكثر تصنيعًا، وبلغت ذروتها بانضمام البلاد الناجح إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 1996.
وبالمقارنة، لم تتبنى مصر قط أيديولوجية طويلة المدى وموجهة نحو تحقيق الأهداف ومؤيدة للسوق. ويستمر الاقتصاد في العمل باستخدام إصلاحات اقتصادية مجزأة، والتي تعوقها بقايا حقبة عبد الناصر القوية، مما يؤدي إلى نمط بطيء وغير متسق في التنفيذ. وقد أدى هذا النهج المختلط إلى زيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي، مما يشكل تحديات أمام المستثمرين المحليين والعالميين على حد سواء.
وبينما قد يواجه المستثمرون حالة من عدم الاستقرار السياسي، فإن عدم اليقين في السياسة الاقتصادية يمنع الشركات من التوظيف والاستثمار والوصول إلى الأسواق. ولذلك، لمعالجة التحديات الأساسية التي تواجه الاقتصاد المصري، لا بد من تقييم ومعالجة متطلبات الاقتصاد السياسي، وليس فقط التركيز على أساسيات الاقتصاد الكلي. وبدون تعزيز أيديولوجية أكثر قوة مؤيدة للسوق، سواء داخل الحكومة أو بين الجمهور، فإن الإصلاحات الاقتصادية في مصر ستظل عالقة في دائرة من الركود لسنوات.