ناشيونال انترست: صعود نظام استبدادي إقليمي في الشرق الأوسط
تلفت مجلة ذا ناشيونال انترست إلى صعود ما وصفته بنظام استبادي إقليمي جديد في الشرق الأوسط. وساهم في إعادة تشكيل هذا النظام الجديد عدة عوامل من أبرزها التعاون الداخلي بين تلك الأنظمة بعد عدد من عمليات التطبيع بين دولها والتمكين الخارجي سواء من خلال ابتعاد واشنطون وأوروبا واقتراب روسيا والصين...
تلفت مجلة ذا ناشيونال انترست إلى صعود ما وصفته بنظام استبادي إقليمي جديد في الشرق الأوسط. وساهم في إعادة تشكيل هذا النظام الجديد عدة عوامل من أبرزها التعاون الداخلي بين تلك الأنظمة بعد عدد من عمليات التطبيع بين دولها والتمكين الخارجي سواء من خلال ابتعاد واشنطون وأوروبا واقتراب روسيا والصين من قوى المنطقة في إحلال سلام غريب بين القوى البارزة فيها، حسب ما يخلص المقال.
استعرضت مجلة ذا ناشيونال انترست في مقال للكاتب حميد رضا عزيزي ما وصفته بصعود نظام إقليمي استبدادي جديد في منطقة الشرق الأوسط .
يستهل الكاتب تقريره بالإشارة إلى أنه وقبل أكثر من عقد بقليل، جلبت انتفاضات الربيع العربي الأمل في تحول ديمقراطي عبر الشرق الأوسط. وسبقت الانتفاضات في العالم العربي الحركة الخضراء في إيران عام 2009، مما رفع التوقعات الإقليمية لمزيد من المشاركة الشعبية في أنظمتها السياسية. ومع انتشار هذا الشعور من إيران إلى تونس إلى مصر إلى سوريا وخارجها، أصبح من الواضح أن سكان منطقة متنوعة ومنقسمة يتحدون في مطالبهم بمزيد من الحكم الديمقراطي.
بيد أن مسار التحول الديمقراطي لم يكن واضحًا؛ فقد واجهت عديد من الحركات الديمقراطية مقاومة ضارية، إن لم يكن قمعًا صريحًا، من النخب الخاصة بها. في حالات أخرى، مثل مصر، كان النجاح الأولي للحركة المؤيدة للديمقراطية قصير الأجل وسرعان ما حل محلها الانقلابات العسكرية. وعلى نحو مأساوي، انزلقت دول مثل سوريا وليبيا إلى حروب أهلية مدمرة، وأصبحت ساحات قتال للفصائل المتطرفة المتنافسة بدلًا من الانتقال إلى دول ديمقراطية. وحتى تونس، حيث بدأ النظام الديمقراطي في التبلور، شهدت انتكاسات.
وأوضح الكاتب أن الشرق الأوسط شهد في الأساس ثلاثة اتجاهات متوازية ومتقاطعة. أولًا، تعثرت جهود التحول الديمقراطي في أعقاب الربيع العربي بسبب النخب المتحكمة والجيوش البريتورية. ثانيًا، تتعاون الأنظمة الاستبدادية بشكل متزايد في دعم الوضع الراهن على الرغم من خصوماتها الشرسة. ثالثًا، لدى القوى العظمى الخارجية الآن حافز أكبر للحفاظ على أنظمة غير ديمقراطية
2023 كنقطة تحول
ولفت الكاتب إلى أنه وفي عام 2023، تشير سلسلة من التحولات الدبلوماسية والتطورات السياسية في الشرق الأوسط إلى احتمال ظهور نظام إقليمي استبدادي. في مارس، تغير المشهد الجيوسياسي تغيرًا كبيرًا عندما اتفقت إيران والمملكة العربية السعودية، الخصمان القدامى، على تطبيع علاقاتهما.
وجاءت هذه الانفراجة المفاجئة في أعقاب القمع الناجح للاحتجاجات على مستوى البلاد في إيران، والتي شكلت تحديًا كبيرًا لشرعية النظام. والجدير بالذكر أنه خلال احتجاجات إيران لعام 2022، امتنعت الرياض عن دعم المحتجين صراحة، وهو قرار تأثر بقلقها بشأن تأثير الدومينو المحتمل لتغيير النظام في إيران. وكان هذا الامتناع الواعي عن التدخل مباشرة ضد منافسها بمثابة تحول ملحوظ في نهج الرياض، مما ساهم في النهاية في تحسين العلاقات الثنائية.
وفي الوقت نفسه، أقامت إيران علاقات مع الإمارات العربية المتحدة. ومن المتوقع أن تحذو البحرين حذوهما في تطبيع العلاقات مع إيران. وهذه التطورات مثيرة للاهتمام، بالنظر إلى أن إيران شكلت تهديدًا خطيرًا للإمارات والبحرين بسبب دعمها للحوثيين اليمنيين والمعارضة الشيعية داخل بلديهما. علاوة على ذلك، أصبحت آفاق إيران في تطبيع العلاقات مع مصر أكثر احتمالًا. وتعتمد الأنظمة الاستبدادية على بعضها البعض من خلال المصالحة الإقليمية - وهو نهج يمكن أن يعزز الاستقرار ويعزل الحكومات عن المعارضة المحلية.
وفي تحول مذهل آخر للأحداث، رحبت الأنظمة العربية بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في مايو، بعد أكثر من عقد من تعليقها. وحدث هذا على الرغم من أن حكومة بشار الأسد تحافظ على حكمها بالقوة بعد حرب أهلية دامية. ويبدو أن الدول العربية رضخت لبقاء النظام العنيد وسمحت لدمشق باستعادة مكانتها في جامعة الدول العربية.
في الشهر نفسه، أسفرت الانتخابات التركية عن فوز آخر لأردوغان وحزبه العدالة والتنمية، مما بدد آمال المعارضة في الإطاحة بأردوغان الذي خدم لفترة طويلة. ويثير احتمال استمرار حكم أردوغان في العقد الثالث مخاوف جدية بشأن زيادة تآكل المؤسسات الديمقراطية في تركيا، وفقًا للكاتب.
ومن المثير للاهتمام كذلك أن تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق بدأ أيضا قبيل الانتخابات التركية. وقد شجعت روسيا وإيران، المؤيدان الأساسيان لبشار الأسد، هذه العملية. وعلى الرغم من الخلافات المستمرة، مثل استمرار وجود القوات العسكرية التركية في سوريا، يبدو أن التطبيع الكامل بين تركيا وسوريا أمر لا مفر منه.
وفي غضون ذلك، بين أبريل ويونيو، احتفلت قطر بالنهاية الرسمية للأزمة الدبلوماسية لمجلس التعاون الخليجي من خلال إعادة فتح سفاراتها في البحرين والإمارات. وبينما اندلعت الأزمة في عام 2017 وانتهت فعليًا في عام 2021 خلال قمة العلا، كانت إعادة افتتاح السفارة إيماءات رمزية تشير إلى التطبيع الكامل للعلاقات.
أخيرًا، يلوح في الأفق التوسع المحتمل لاتفاقات أبراهام حيث تفكر المملكة العربية السعودية في الانضمام إلى الإمارات والبحرين والمغرب في تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
ويلفت الكاتب إلى أن معنى هذه التطورات واضح؛ شهد عام 2023 طفرة في توطيد النظام الاستبدادي الإقليمي، والتحول نحو المصالحة الإقليمية، والقبول العملي للحقائق الجيوسياسية من مختلف الجهات الفاعلة الإقليمية.
القوى الخارجية بوصفها عوامل تمكين
ويرى الكاتب أنه ورُغم أن الصعود الأخير في التعاون والتفاهم بين الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط لم يسبق له مثيل، إلا أنه يمثل خروجًا كبيرًا عن المعايير السابقة. ويتأثر هذا التحول في المقام الأول بتغييرين أساسيين في المشهد العالمي: الأولويات الانعزالية للقوى الغربية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتأثير المتزايد للقوى غير الديمقراطية مثل الصين وروسيا.
وبمرور الوقت، قللت القوى الديمقراطية من وجودها في المنطقة أو خففت تركيزها على الديمقراطية وحقوق الإنسان لصالح البراغماتية. وسط الحرب في أوكرانيا، سعت الدول الأوروبية إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة من خلال اللجوء إلى ممالك البترول في العالم العربي باعتبارها بديلًا لروسيا. وهم بذلك يتغاضون عن السجلات السيئة لحقوق الإنسان. كما علقت الولايات المتحدة انتقاداتها للسلوك المحلي للمملكة العربية السعودية، ساعية بدلًا من ذلك إلى إقناع الرياض بإعادة النظر في علاقاتها مع روسيا والصين.
في غضون ذلك، قدم النفوذ المتزايد للصين وروسيا - قوتان رئيستان غير ديمقراطيتين - لأنظمة الشرق الأوسط بديلًا. دون عوائق من الشروط المسبقة المتعلقة بحقوق الإنسان أو الممارسات الديمقراطية، أتاحت هذه القوى الشرقية للحكومات الإقليمية الفرصة لتعزيز أنظمتها الاستبدادية بينما لا تزال تتمتع بعلاقات اقتصادية وسياسية مفيدة.
وعلى سبيل المثال، أدى الاستبداد الإيراني المتزايد، بشكل أساسي منذ الانتخابات الرئاسية لعام 2021، إلى تعاون استراتيجي مع الصين وروسيا، وهو ما أسفر عن نوع ما من التعاطف الاستبدادي الذي أصبح حجر الزاوية في سياستها الخارجية. وتشعر كل من الصين وروسيا بالراحة في العمل مع إيران الخالية من أي وجود إصلاحي ذا مغزى يسعى إلى تحسين العلاقات مع الغرب، وطهران، التي تتصارع مع علاقاتها المتوترة مع الغرب، تجد سلوى في العلاقات التي أقامتها مع شركائها الشرقيين.
وعلى الرغم من اختلاف دول الخليج العربي عن إيران في نهجها تجاه الغرب، إلا أنها تجني فوائد مماثلة. فهم يرحبون بالصين باعتبارها بديلًا عمليًا لأن بكين لا تحكم على السياسات الداخلية لشركائها الاقتصاديين. وعلى عكس الولايات المتحدة، فقد تبنوا نهجًا قائمًا على التوازن بين مصالح القوى الكبرى. ومع ذلك، فإن النتيجة هي نفسها: الأنظمة الاستبدادية تكتسب ثقة أكبر لتتصرف كما يحلو لها.
في المجمل، وحسب ما يضيف الكاتب، أثر عاملان تأثيرًا كبيرًا على التغييرات الأخيرة: أولًا، المنافسة المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين على المسرح الدولي، وثانيًا، حرب أوكرانيا وما تلاها من بحث القوى الغربية عن موارد قوة بديلة.
يشهد العالم ساحة جديدة من المنافسة بين الشرق والغرب. وعلى عكس حقبة الحرب الباردة، عندما حملت المنافسة تناقضًا أيديولوجيًا صارخًا أجبر الشركاء الإقليميين على تبني أيديولوجية رعاتهم من القوى العظمى، فإن المنافسة الحالية جيوسياسية بحتة. ويسمح هذا الوضع للقوى الإقليمية بالمناورة من أجل تحقيق مكانتها المثلى وتأمين أقصى قدر من الفوائد مع تعزيز الشكل المفضل لها من الحكم. وأعطى هذا المشهد الجيوسياسي المتطور للقوى الإقليمية مجالًا أكبر للمناورة وزيادة ترسيخ ممارساتها الاستبدادية، مما يسلط الضوء على العلاقة بين تحولات القوة العالمية والديناميكيات السياسية الإقليمية.
من الفهم الاستبدادي إلى النظام الاستبدادي
ويتابع الكاتب: في المشهد السياسي سريع التطور في الشرق الأوسط، يبدو أن القطع تتراجع لتشكيل نموذج جديد - نظام استبدادي. وينبع هذا النظام من سلسلة من التفاهمات المتبادلة بين مختلف الجهات الفاعلة الإقليمية لتطبيع واستقرار علاقاتها. وإذا أدى هذا الفهم المشترك إلى إخماد الصراعات والنزاعات الإقليمية، فقد يؤدي إلى عهد جديد من الاستقرار الاستبدادي.
من سمات هذا النظام الناشئ الفهم الضمني بين الحكومات الاستبدادية الإقليمية بأن هناك ميزة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. وهذا الفهم مدفوع جزئيا بالخوف من تأثير الدومينو إذا سقط نظام واحد، ومن ناحية أخرى، بمصالح القوى الخارجية في الحفاظ على الوضع الراهن. ونتيجة لذلك، أصبحت فكرة تغيير النظام الديمقراطي مفهوما غير مستساغ على نحو متزايد داخل المنطقة.
كما يشير الشعور الجديد باالتضمين ولاحتواء إلى هذا النظام، مما يوسع نطاقه ليشمل إيران الشيعية وحلفائها فيما يسمى «محور المقاومة». وتشير خطوات إيران الأخيرة نحو تطبيع العلاقات مع جيرانها العرب السنة إلى تصور طهران بأن هذه الدول لم تعد مجرد «وكلاء» للولايات المتحدة. وتشعر إيران الآن أن الجهات الفاعلة الإقليمية تعترف بموقفها ومصالحها وتحترمها.
ومن السمات المميزة الأخرى للنظام الناشئ مكانته داخل منافسة القوى العظمى الخارجية، مع الغرب من جانب وروسيا والصين من جانب آخر.
على سبيل المثال، تعتمد إيران على الصين كشريان حياة اقتصادي أساسي وسط العقوبات التي فرضها الغرب. في الوقت نفسه، وضعت السعودية نصب عينيها جذب استثمارات صينية كبيرة وتشارك بنشاط في مبادرة بكين للحزام والطريق. ويحمل التوافق الاستراتيجي بين السعودية والصين أهمية كبيرة حيث تسعى الرياض إلى تنويع اقتصادها وتعزيز شراكاتها العالمية. وقد تزيد مصالح الصين المتنامية في كلا البلدين من الحذر المتبادل من تصعيد الصراع.