أحداث فرنسا.. ماذا بعد ؟

خلاصة

هناك إجماع من المراقبين على كون العلاقات بين القطاعات الفقيرة من أبناء المهاجرين من أصول غير أوروبية وغيرهم من أفراد الشعب سيئة للغاية في فرنسا، وتتدهور بسرعة.

هناك إجماع من المراقبين على كون العلاقات بين القطاعات الفقيرة من أبناء المهاجرين من أصول غير أوروبية وغيرهم من أفراد الشعب سيئة للغاية في فرنسا، وتتدهور بسرعة. وربما يمكن القول إننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة مع أحداث الأيام الأخيرة وما شاهدته عموم الأراضي الفرنسية من هجوم جماعي وعمليات حرق ونهب وسرقة وأعمال تخريب، فيما بدا لأبناء الشعب الفرنسي وكأنه غزو جحافل تنتمي إلى شعب آخر.

وتختلف الروايات والقراءات وبالتالى التشخيص. الرواية التي تميل وسائل الإعلام العالمية الكبرى إلى تبنيها هي رواية أنتجتها فرق اليسار الراديكالي، وترى أن الدولة الفرنسية تتبنى سياسات عنصرية وتتعامل مع المهاجرين كما كانت تتعامل مع الشعوب المستعمرة في إعادة إنتاج الإرث الإمبراطوري وتكييفه ليلائم ظروف العصر، وهي رواية تواجه إشكاليات عديدة، حتى لو كان هناك إقرار بأن لا أحد يتخلص من تبعات الماضي في يوم وليلة (التوزيع الجغرافي للمهاجرين ونوع المساكن التي بنيت لاستقبالهم وكيفية التعامل معهم في الستينات والسبعينات على سبيل المثال). فهذه المقاربة لا تصلح حتى لو غيرنا مفهوم "العنصرية" ليصبح شاملاً لكل الظواهر السلبية، وليكون اتهاماً جاهزاً يطول أي سياسة خاطئة و/أو تقوم على فرضيات خاطئة.

وربما يكون العكس هو الصحيح، حيث تحاول الدولة الفرنسية أن تكون سخية مع أبناء المهاجرين، دون أن ينفي ذلك أن قطاعات واسعة من الجمهور الفرنسي لها مشاعر سلبية أو على الأقل متباينة تجاه المهاجرين لا سيما المسلمين منهم، وهى مشاعر تتراوح بين التوجس من بعض مكونات ثقافتهم ومن بعض الممارسات والرفض المطلق والعنصري لهم.

وبعبارة أخرى، فإن سلبيات هذه المقاربة كثيرة، خاصة أنها تؤدي إلى تشخيص في غاية الخطورة فيما يخص معالجة كارثة هذه الأيام، وهو تشخيص يرى ضرورة فرض قيود أكبر على عمل الشرطة، وهو تشخيص لا يمكن لشعب يرى بلاده تحترق على يد جحافل من المراهقين أن يقبله – مهما كانت عيوب الشرطة الحقيقية أو المفترضة – وأغلبها مفترضة في رأيي.. نعم هناك غضب كبير في صفوف أبناء المهاجرين لأسباب الكثير منها حقيقي وبعضه متخيل، ولكن هذا لا يبرر ما حدث.

وفي المقابل، هناك رواية أو روايات فرق مختلفة بعضها يميني وبعضها يساري ويجمع هذه الفرق التمسك الشديد بالهوية والثقافة الفرنسية، وهذه الروايات ترى أن المشكلة في المهاجرين لا في الدولة وأن خطأ الدولة الرئيسي هو قبول هدم هيبتها والتراجع المستمر أمام جماعات الضغط اليسارية والإسلامية والليبرالية المروجة للتعددية الثقافية، وعجزها عن إنفاذ القوانين، وتنازلها التدريجي عن كل بنود العقد الاجتماعي، وهذه الروايات مختلفة بل ومتناقضة، وأغلبها يرى أن المهاجرين يرفضون الثقافة الفرنسية، لأسباب يراها البعض وجيهة، ويراها البعض غير مبررة، وقطعاً تتراوح مواقف المهاجرين من فرنسا بين من يريد الاندماج وينجح ومن يريده ويرى تمييزاً يمارس ضده في العمل والسكن، ومن يريد ولا يرغب في الاندماج في آن واحد (يريده مع الخوف على هويته)، ومن لا يريده ويتقوقع، وأخيراً من يرى نفسه في حالة حرب مع مجتمع يعيش فيه يرفض هويته وماديته ولا دينيته والأيديولوجيات الفردية إلخ. ويمكن القول إن الفاعلين في الأحداث الأخيرة هم غالباً من الفريق الأخير.

وباستثناء من يقول، في تعميم ظالم، أن المشكلة في كل المهاجرين أو في أغلبيتهم، قد يكون وصف المجموعة الثانية من الروايات للحالة أقرب إلى الحقيقة رغم ميلها إلى تجاهل أخطاء الدولة والحكومات المتتابعة في التعامل مع هذا الملف ورغم تناسيها الماضي الاستعماري وآثاره وأخطاء الحكومات المتتابعة. ولكن الإقرار بوجاهة وصف الحالة لا يعني الإقرار بصحة التوصيات وواقعيتها...

ما حدث: فتيل البارود

شاب عمره 17 سنة له صحيفة سوابق ممتلئة رغم صغر سنه كان يقود مرسيدس بجنون ناشراً الرعب في بلدية غرب باريس عندما تعرض له ضابطا شرطة قاما بمطاردته واستغلا اضطراره إلى التوقف لشدة الزحمة في ميدان، وحاولا إجباره على النزول ورفض الشاب الامتثال. وهنا ارتكب ضابط خطأ – على الأقل تصرف بطريقة مخالفة لقواعد التعامل التي تقرها لوائح الشرطة- حيث أخرج مسدسه متخذاً وضع من سيطلق النار وهدد به الشاب الذي لم يمتثل بل انطلق بالسيارة بسرعة وفقد الضابط توازنه أو ارتبك وانطلقت الرصاصة ومات الشاب بعد قليل رغم محاولة قاتله إسعافه. وبرر الضابط فعلته بأن سيارة الشاب كادت تقتل عدداً من المارة وتصدم عدداً من السيارات وأنه رغب في إصابة ساقيه ليمنعه من التحرك، وهذا الكلام قد ينفي نية القتل ولكنه لا ينفي عدم قانونية إخراج المسدس وكونه خطأ جسيماً.

آليات التعامل

سعت السلطة – رئيس الجمهورية أساساً- إلى تفادي أخطاء حكومة الرئيس الأسبق جاك شيراك الذي واجه أحداثاً شبيهة سنة 2005، فلم تقم بإدانة الضحية، أي الشاب، ولم تبرز صحيفة سوابقه المذهلة، بل قالت إن ما حدث غير طبيعي وأن شاباً فرنسياً توفى بسبب الشرطة، وأن هذا أمر مؤلم وغير جائز، وهو ما اتفق مع رأى الجمهور الفرنسي بأغلبيته الساحقة، الذي كان شديد الغضب في بداية الأمر.

وفي تصرف حكيم، تم فتح تحقيق، ولكن باقي تصرفات وتصريحات السياسيين كان أقل توفيقاً. وقد أدانت السلطة في تصريحاتها الضابط وبدت قراراتها وكأنها تُحمِّله المسئولية كلها، وقالت إنه ارتكب فعلته مع سبق الإصرار، وهو ما فهم منه أن الدولة "تعترف" بإثمها، وإضافة إلى ذلك أمرت السلطات باعتقال الضابط وتحويله إلى النيابة وحثت مجلس الأمة على الوقوف دقيقة حداداً على روح الشاب، وتبنى بعض رموزها روايات تتحدث عن مشكلة في أداء الشرطة وعن عنصرية الدولة، وهو ما أثار غضب الكثيرين من ضباط الشرطة، وانطلقت حملة تبرعات لدعم المتهم وعائلته وحصدت أكثر من مليون يورو في عدد محدود من الأيام. وفرض أداء القيادة السياسية وضعاً يلزم السلطة والشرطة بالوقوف في موقع المتهم ويبرر أي احتجاج عنيف. وباختصار تفادى الرئيس أخطاء إدارة شيراك ووقع في غيرها. ولعب محامي الضحية دوراً في تأجيج الغضب وهو محامي من أصول مغربية تخصص في القضايا التي يكون فيها المتهم ضابط شرطة. ولعب خطاب وتصريحات فصائل اليسار الراديكالي دوراً في الاتجاه نفسه. (تراجع بعضهم بعد ذلك)

أعمال التخريب والنهب والحرق

بسرعة، سادت أعمال النهب والتخريب والحرق على نطاق واسع وغير مسبوق، فلم تنحصر في المدينة التي شاهدت الحادث ولا في المدن والأحياء التي تعرف هذه الاضطرابات، بل إن الاضطرابات شملت كل أنحاء الجمهورية بما فيها قرى ومدن صغيرة لم تعرف أعمال عنف واحتقان قبل ذلك، وهذا فارق جوهري مع اضطرابات 2005. وبمتابعة تغطية الصحافة الإقليمية، تبين أنه لا يوجد إلا عدد محدود من المناطق التي بقيت هادئة، بل إن الإعلام تحدث عن مدن بالكامل لم تنم من الرعب.

وفي حين اقتضت مواجهة اضطرابات 2005 نشر 12 ألف من قوات الشرطة، فإن اضطرابات هذه السنة اقتضت حشد 45 ألف من قوات الشرطة التي ما زالت عاجزة عن إعادة الاستقرار. وتلعب مواقع التواصل الاجتماعي دوراً في نشر الأخبار وفي تقديم رواية غير الرواية الإعلامية التي تميل دائماً إلى تفادي إدانة المهاجرين وتقدم باستمرار أعذاراً لكل أفعالهم، وتسببت المواقع الاجتماعية والفيديوهات المنشورة عليها في تأجيج غضب كل مكونات المجتمع وفي تعميق الاستقطاب. وطالت أعمال التخريب والنهب المحلات والبنوك والمدارس والمرافق العامة ومقار البلديات والمراكز الثقافية والملاعب الرياضية وأقسام الشرطة ومواقع لها صلة بالمحرقة ضد اليهود، بالتوازي مع بروز حالات إطلاق النار على الشرطة بـ"سلاح طويل" (مصطلح الشرطة يعني إما بندقية أو أسوأ) ومحاولة قتل زوجة عمدة وأبنائه الصغار وحرق منزله.

الفاعل الرئيسي هنا هو مجموعات من أبناء المهاجرين والأحياء والمدن الفقيرة المهمشة التي تعد جيوباً ترفض مظاهر تواجد الدولة، وكلهم شباب وعدد كبير منهم لم يبلغ الثالثة عشر من عمره، وعندما نقول "أبناء المهاجرين" فإن ذلك معناه أن عدد المشتركين في الأحداث عشرات الآلاف وقد يصلون إلى خمسين ألف كحد أقصى، أي لا يمثلون جموع هذه الفئة، لكنهم سريعو الحركة ويعرفون خريطة المكان على عكس رجال الشرطة، وأغلبهم غير مسيس لا يتبنى مطالب سياسية أو اقتصادية أو فئوية (مع استثناءات ذكرت البطالة كسبب للتخريب) ولا يستهدف الدولة ورأسها ولم يذكر اسم الضحية ولو مرة، وعندما تم القبض على بعض المراهقين غرقوا في البكاء لأنهم لم يدركوا أن ما فعلوه غير مقبول. وهناك أقلية شبه منظمة ومسلحة تنتمي إلى شبكات تجارة المخدرات، وقد انتقمت من سياسة وزير الداخلية القائمة على فرض رقابة دائمة على مواقع تجارة المخدرات وملاحقة المشتركين فيها باستمرار والإكثار من "الغارات" عليها.  

 وهناك قوات الشرطة التي نجحت حتى الآن في التعامل مع الشباب دون قتل أحدهم رغم إصابة خمسمائة من الجنود والضباط وإطلاق النار عليهم بنية القتل. ومن المعروف أن الشرطة تخضع لتعليمات وتتبع وسائل تعامل مع المظاهرات وحوادث النهب والتخريب هدفها تفادي قتل أي مواطن وأي متظاهر بقدر الإمكان، وفي المقابل تمكنت من القبض على عدد يفوق الـ1300، 30٪ منهم من القاصرين، وأغلبهم كان حاملاً لمسروقات ثقيلة أبطأت حركته. وقد كان لافتاً أنه خلال أحداث السترات الصفراء ثار جدل حول لجوء الشرطة إلى أنواع من الأسلحة (قاذفات ذخيرة دفاعية) تحدث إصابات جسيمة، ولكن يبدو أنها لم تستخدم هذه المرة.

ولكن هناك فاعلين آخرين دخلوا على الخط، كلجان شعبية إن جاز التعبير، ومجموعات شبابية عنيفة تنتمي إلى أقصى اليمين، ومجموعات يسارية متطرفة. ومن نتائج هذه الأحداث وصول حالة الغضب الثائر ضد أبناء المهاجرين حداً غير مسبوق قد ينذر بالسوء. وعلى سبيل المثال، قوبل تصريح للسيدة فاليري بيكريس المرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية ورئيسة إقليم "إيل دو فرانس" أعلنت فيه ضخ 20 مليون يورو إضافية في الضواحي المحيطة بباريس باستهجان ورفض شديدين من جانب الرأي العام، الذي بدأ يشعر أن لا جدوى من اتباع سياسات اجتماعية في هذه الضواحي لا سيما في ظل وجود فئات أخرى تحتاج إلى دعم وحماية.

كل هذه الأحداث تزيد من الهوى اليميني المتطرف لدى الرأي العام الذي لم يعد قابلاً لرواية المظلومية والتمييز، لأن الدولة، وفقاً له، منحت حقوقاً وإعانات كثيرة للمهاجرين وأنفقت المليارات على الضواحي، مهملة إلى حد ما الريف والمدن المتوسطة التي فقدت صناعاتها، وهذه الأموال، وفقاً لهذا الرأي، لم تحقق شيئاً. لا نقول أن هذا الرأي صائب في المطلق ولا أن أسلوب الإنفاق كان وجيهاً، ولا نقول أن المهاجرين لا يتعرضون لتمييز حاد من قبل فئات كثيرة، بل نقول أنه لا يمكن اتهام الدولة بإهمال الضواحي وبتعمد اضطهادها، ويسود حالياً انطباع في الرأي العام الفرنسي قد لا يكون دقيقاً، ومفاده أن أبناء المهاجرين لم يندمجوا لأنهم لا يريدون الاندماج وأنهم يرون أنفسهم شعباً مختلفاً عن الشعب الفرنسي معادياً له ويعتبرون فرنسا عدواً يجب غزوه وإهانته، عدو يخشاهم ولم يدفع إلى الآن ثمن ماضيه الاستعماري.

وقد تسببت عمليات القبض وعدم وجود ما يمكن نهبه وحرقه ونداءات النشطاء من أبناء الضواحي وتدخل الأهالي في تراجع نسبي لمعدلات العنف في الليلتين الرابعة والخامسة، ولكن في فرنسا وفي الأحوال العادية لا يجوز احتجاز فرد ولا سيما إن لم يبلغ سن الرشد أكثر من ٤٨ ساعة، وبالتالى من المبكر الزعم بأن الأسوأ مر، لا سيما أننا لا نستطيع استبعاد وجود ضحايا في المستقبل.

واللافت للنظر هنا، أن عدداً كبيراً من المقبوض عليهم صغيرو السن، أي أن القاضي الذي سيتولى التحقيق والنظر في القضية هو قاضي الأحداث وستكون العقوبات لينة مما سيعمق الفجوة بين الرأي العام والدولة.

وحالياً، يستبعد المسئولون إعلان حالة الطوارئ على عموم أراضي الجمهورية، ولكنهم يقرون بأنهم قد يلجئون إليها إن تدهورت الأمور. وتتيح الطوارئ الضبط والاعتقال في غير حالات التلبس دون إذن من القضاء، وهذا قد يساعد الشرطة. لكن الموقف قابل للاشتعال إن اضطرت الشرطة إلى قتل مراهق، أو لو تم قتل أحد من هؤلاء المراهقين من قبل "لجان شعبية" تشكلت في بعض الأحياء، أو إن تسببت الاعتداءات التي ينظمها بعض المسلحين من اليمين المتطرف في وقوع قتلى. واللافت أن الإعلام الفرنسي يركز على هذا التهديد ولكن كلامه لا يلقى صدى في الداخل الفرنسي، بل إنه يساهم في تراجع مصداقيته.

تداعيات محتملة

من الواضح أن هذه الأحداث ستزيد من حدة الميول اليمينية للرأى العام، وأن شعبية اليسار المتطرف والخضر المدمنين للتهييج والمزايدة انهارت مما يزيد من تطرفهم، ومن خطرهم على الاستقرار. وعلى سبيل المثال، أدان زعيم اليسار المتطرف ميلانشون حرق المكتبات والمدارس، وكأن حرق البنوك والمتاجر والمرافق العامة حلال!، ولا يوجد في اليسار التقليدي من يبدو قادراً على التعبير عن جماهير اليسار الرافضة لما حدث، حيث أن أداء وزير الداخلية السابق كازونوف أو رئيس الوزارة السابق مانويل فالس لم يكن على مستوي الحدث.

والكثيرون سيتوقفون على الخط الذي سيختاره الرئيس، وأداؤه في عدد من الملفات السيادية والاجتماعية كشف عن رغبة دفينة في خطب ود اليسار المتطرف رغم أن هؤلاء يكرهونه بلا هوادة، وإن استمر في هذا النهج المفضل لديه سيزيد من الاحتقان الكبير في المجتمع وفي قوات الشرطة (الشرطة جهاز يتمتع بشعبية كبيرة في فرنسا وفقاً لكل استطلاعات الرأي، ولكنه مكروه في الضواحي وفي الأوساط اليسارية المتطرفة)، وسيعمق أزمة الثقة في الدولة ويزيد من تراجع هيبتها، وبالتالي عليه أن يحدد سياسة تتفق والهوى اليميني مع تفادي عنصرية هذا اليمين وميله إلى شيطنة كل المهاجرين، أي دعم الأمن وتغيير القوانين وتفعيلها لإعادة سلطة الدولة وهيبتها، والكف عن التساهل مع الشباب المنتهك للقوانين.

ووفقاً لعدد الثلاثاء (يصدر الإثنين العصر) لجريدة لوموند، فقد اقترح استراتيجية قوامها استرداد الاستقرار وفرض النظام، وصرامة في الأحكام الجنائية (الأمر في يد القضاء لا في يده) وصحوة أخلاقية، وهذا طبعاً كلام سليم ولكنه أيضاً شعارات لا ترسم سياسات.

وللأحداث تبعات ستكون جسيمة على اقتصاد الدولة، فالإنفاق على إصلاح وإعادة بناء ما تم تدميره وتقديم تعويضات للتجار إلخ، سيفاقم من مشكلة ديون فرنسا. كما أن هيبة الدولة تلقت ضربة جديدة، بالتوازي مع سيطرة أجواء عداء للمهاجرين.

وهنا، لا يمكن استبعاد محاولة الإخوان المسلمين الاستفادة من الموقف بعرض مساعدتهم على الدولة، وهى مساعدة قائمة على السماح لهم بتربية الشباب ومنعهم من الانزلاق إلى الجريمة المنظمة. وقد اختبرت فرنسا هذا الخيار في الثمانينات والتسعينات ولم ينجح، ولكن الوضع جد خطير ويقتضي مزيداً من التحرك السريع واتخاذ سياسات طويلة الأجل، وقد تستسهل بعض السلطات المحلية أو الدولة اختيار الحل الإخواني.

ماذا بعد

حالياً، تتراجع حدة الأزمة، ولكن المصادر الشرطية المتعاملة مع الأزمة لا تعرف إن كان هذا التراجع مؤقتاً أم لا. فمن ناحية، لا تعرف إذا كان تأثير عمليات القبض والاحتجاز المؤقت سيردع الشباب العنيف أم لا. صحيح أن جهاز الشرطة منضبط ولكن وفاة أحد أفراده قد تتسبب في تصعيد أو قد تدفع بعض المجموعات اليمينية إلى التدخل العنيف بنية المعاقبة. وحالياً، فإن المؤشرات تكشف أن الوضع يتسم بالسيولة، ورغم خطورته، فإن العنف قد يتراجع دون أن يتوقف كاملاً، في حالة ما إذا لم يطرأ جديد.

وكما تمت الإشارة، لم يتضح بعد موقف الرئيس. إذ أن متابعة أدائه لست سنوات لم تسمح بتحديد ما هي معتقداته وتوجهاته لا سيما في الملفات السيادية، فتصريحاته متناقضة تناقضاً لا يمكن تفسيره بتغير الظروف، ففي حديث تلفزيوني قال الرئيس السابق فرانسوا هولاند أن الموقف يتطلب سياسات جادة وحلول خلاقة لأزمة الضواحي، وأضاف: "للأسف الظرف لا يسمح بهذا"، وربما يشير ذلك إلى أن حالة الرأي العام حالياً لا تسمح بسياسات اجتماعية واستثمارات وبإعانات للضواحي إضافة إلى حالة فرنسا المالية وحاجة فئات أخرى إلى الدعم.

باختصار، فإن الحل الأمثل للدولة يقتضي استرداد هيبتها وقدرتها على إنفاذ القانون، وهذا صعب حتى لو توافرت الإرادة السياسية. وبالطبع، فإن معاقبة من تورط في الأحداث وتمكين الشرطة وتعويض المتضررين ثم تخصيص الوقت والمال لرسم وتنفيذ سياسات جديدة لمحاولة معالجة أمراض وأزمات الضواحي تكتسب أهمية خاصة. ولكن السجل السابق للرئيس يوحي بأنه سيفضل إرضاء النخب الليبرالية واليسارية وتجاهل مزاج الرأي العام وتوجهاته، وعلى أحسن الفروض سيتبنى خطاً يحاول الجمع بين النقيضين وإرضاء كل الأطراف، وهذا سيكون مكلفاً مالياً ولن يحقق شيئاً. وفي كل الأحوال، قد يكون مصير مشروع قانون الهجرة، وهو مصير لم يتحدد بعد، مؤشراً لنواياه... وقد لا يكون نظراً لتقلباته.

الموضوع التالي هل يخشى الغرب من "هزيمة" روسيا..؟
الموضوع السابق90 دقيقة – بسمة وهبة – حلقة الأربعاء 05-07-2023