أزمة الضواحي في فرنسا.. الدوافع والتداعيات

خلاصة

تبدو أزمة فرنسا نابعة من كون هذا البلد الأوروبي المتقدم يجمع بين أسوأ ما في اليمين واليسار، إضافة لعلمانية متطرفة، ودولة مركزية اعتادت على محو الفوارق بين المجتمعات بالقوة عبر تاريخها، إحدى الإشكاليات الكبيرة في الثقافة الفرنسية، أنها لا تعترف رسميًّا بوجود أقليات بدعوى أن ذلك يمثل نوعًا من التمييز...

لم يكد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يخرج من أزمة نظام التقاعد، حتى وجد نفسه أمام تحد أشد خطورة، تحد مفتوح على احتمالات عديدة، تمثل في اشتعال أحياء الضواحي نتيجة مقتل فتى برصاص شرطي. وكان الرئيس قد أمهل نفسه عقب انتهاء أزمة إصلاح نظام التقاعد مئة يوم حتى 14 يوليو/تموز من هذا العام، من أجل "تهدئة" البلد ومن بعد استكمال مسار ولايته الثانية(1).

غير أن ماكرون اليوم في مأزق جديد مع تواصل أعمال العنف والشغب في أحياء الضواحي بمختلف أنحاء فرنسا بعد مقتل الشاب نائل البالغ من العمر 17 عامًا. ويبدو التعارض صارخًا بين مشاهد بلديات ومدارس وحافلات ترام تحترق، وصور ماكرون قبل ذلك بيومين يحيي الحشود ويخالطها في الأحياء "الحساسة" بمدينة مرسيليا في جنوب فرنسا.

يجتاز الرئيس إيمانويل ماكرون في هذه الأثناء الاختبار الثالث مع اضطرابات العنف المدني ومخاطر حصول "انتفاضة الضواحي الثانية"، وذلك بعد مواجهته احتجاجات السترات الصفراء، والاحتجاجات حول نظام التقاعد. وهذه المرة يجد ماكرون نفسه أمام تحدي الحفاظ على هيبة الدولة واحترام النظام العام من جهة، وضرورة الحفاظ على التماسك المجتمعي ومستقبل الشباب المهمش من جهة أخرى.

ومما لا شك فيه أن الوضع مفتوح على كل الاحتمالات، وستضع التداعيات المنتظرة البلاد على المحك، وستنعكس على المشهد السياسي والاجتماعي المتنازع عليه بين أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار(2).

دوافع الاحتجاجات في الضواحي

تمر فرنسا بمرحلة دقيقة من تاريخها خلال العقود الأخيرة، وقد تكون الأخطر بعد انتفاضة مايو/أيار 1968؛ إذ تعيش تفككًا لنفوذها في الخارج ولاسيما في القارة الإفريقية، ثم أصبحت شاهدة على تفكك المجتمع جراء سياسات سوسيو-اقتصادية تترتب عنها احتجاجات عميقة للغاية طيلة الأيام الماضية.

وبين عشية وضحاها صارت فرنسا حديث وسائل الإعلام الفرنسية والدولية بسبب الاحتجاجات العنيفة التي وقعت بعد مقتل شاب فرنسي من أصول جزائرية على يد موظف أمن. وتبين أن عملية القتل لا مبرر لها سوى غلبة العنف المؤسساتي الأمني على شاكلة ما يجري في الولايات المتحدة الأميركية. ويحدث هذا بعد إجراء تعديلات قانونية في العام 2017 تسمح لرجال الشرطة بإطلاق النار على الأشخاص في حالة عدم استجابتهم لأوامرهم. وقد تحول الوضع إلى احتجاجات عنيفة في عشرات المدن الفرنسية؛ حيث دخلت الحكومة في نقاشات عميقة لفرض حالة الطوارئ، ويعتبر هذا التحول ثالث منعطف سياسي واجتماعي واقتصادي خطير تواجهه فرنسا خلال السنوات الخمس الأخيرة(3).

يعتقد بعض المحللين أن مقتل الشاب نائل جاء نتيجة سوء المعاملة غير العادلة بل والعنصرية من طرف الشرطة إزاء ما يُعرف بالجيل الثاني والثالث، أي أبناء وأحفاد مهاجري دول شمال إفريقيا وكذلك مهاجري دول الساحل أو غرب إفريقيا. وبالتالي أصبح مغاربيو فرنسا هم الأميركيين من أصول إفريقية عند المقارنة بين الشرطة الفرنسية والشرطة الأميركية.

ولم تتفاجأ الدولة الفرنسية من هذه التطورات السلبية؛ إذ كانت قد حذرت منذ أيام من إمكانية توسع رقعة الاضطرابات في مجموع فرنسا. وهذا الأمر ليس بالجديد على تقارير الاستخبارات الفرنسية التي تنبأت بتعبئة شعبية قوية قد تؤدي إلى انفجار الوضع الاجتماعي ونسبت ذلك إلى تراجع القدرة الشرائية وارتفاع أسعار الطاقة وانعكاسات ذلك الخطيرة على الأنشطة التجارية والحرفية، يُضاف إلى ذلك خطة الحكومة الساعية لإصلاح نظام التقاعد والتي تعارضها شرائح عمالية ومدنية وسياسية كثيرة(4).

تحدث محمد كمات (من حزب الجمهوريين)، وكان ضيف برنامج "نقاش" في قناة "فرانس24" عن تركيبة سكان الضواحي، فأكد أن هناك اكتظاظًا سكانيًّا في أحياء بُنيت في الستينات والسبعينات وفق تصور يساري. وهذه الأحياء ينحشر فيها عدد من السكان يعد بالآلاف، ويصل طول البناية الواحدة إلى عشرين طابقًا، وجميع سكانها من الطبقات الهشة ممن لم تتوافر لهم وسائل التعليم المناسبة؛ فهم تقريبًا من آباء وأمهات كانوا عاطلين عن العمل، أو عملوا في مهن بسيطة مما انعكس سلبًا على تربية أبنائهم، وهذه الوضعية تؤثر بشكل حتمي على حظوظهم في الحصول على تعليم جيد ومن بعد مستوى وظيفي رفيع(5).

وفي هذا السياق، كان وزير الداخلية السابق، كريستوف كاستانير، قد أعد في يونيو/حزيران 2020، خططًا لإصلاح الشرطة، وشمل ذلك حظر خنق الأشخاص أثناء عمليات الاعتقال، كما شمل إصلاح هيئة مراقبة جهاز الشرطة، وتطبيق سياسة عدم التهاون مطلقًا مع العنصرية داخل الجهاز. لكن نقابات الشرطة احتجت على هذا الإصلاح وهو ما عجَّل بإصدار قرار بتعيين جيرالد دارمانان بدلًا من كاستانير، في تعديل وزاري تم بعد شهر من صدور تقرير كاستانير(6).

إن هذه الاحتجاجات ليست بالجديدة على فرنسا، لكنها كانت تتراجع في كل مرة من دون حلول جوهرية، وكانت احتجاجات مماثلة قد حدثت في الولايات المتحدة وفي بريطانيا في الستينات وحتى في الثمانينات، وقد أدت إلى إصلاحات عميقة داخل أجهزة الشرطة في هاتين الدولتين، لذلك فإن المراقبين يتساءلون في فرنسا: لماذا لم يحدث إصلاح مماثل على مدى السنوات الأربعين الماضية؟

وإذا كان التعدي على الأملاك العامة، وأعمال النهب والسرقة وإشعال الحرائق أمرًا مرفوضًا بطبيعة الحال، لكن لا ينبغي النظر إلى ذلك الجانب فقط، والاكتفاء بمحاكمة عادلة لشرطي فرد بات يحظى الآن بحملة داعمة تجمع له التبرعات، لأن ذلك الموقف نوعٌ من التضليل(7).

على مدى السنوات الماضية، ظل عنف ضواحي كبرى مدن فرنسا -ولاسيما باريس- حاضرًا في واجهة التوترات الاجتماعية التي تشهدها البلاد، ففي ظل خصوصيتها الديمغرافية، وتركز أجيال من أبناء المهاجرين فيها، فقد شكَّلت أحداث الضواحي وصدامات أبنائها مع الشرطة تعبيرًا عنيفًا عن رفض مجتمعي للتهميش الاجتماعي ولسياسات الحكومات المتعاقبة وخطابات جزء من الطبقة السياسية بشأن مجتمع أبناء الجاليات لاسيما قوى اليمين المتشدد؛ حيث يعاني شباب الضواحي الباريسية -الذين ينحدر معظمهم من إفريقيا- من ارتفاع معدل البطالة والفقر وانعدام الفرص الاقتصادية(8).

طلبت الأمم المتحدة، من فرنسا معالجة مشكلات العنصرية والتمييز في صفوف قوات الأمن، وذلك بعد إقدام شرطي على قتل فتى بالرصاص، وقالت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، رافينا شمداساني، خلال مؤتمر صحفي في جنيف: "لقد حان الوقت ليعالج هذا البلد بجدية مشكلات العنصرية والتمييز المتجذرة في صفوف قوات الأمن"(9).

تحديات الضواحي: الثابت والمتحول

اعتمدت الحكومات الفرنسية المتعاقبة على مدار العقود الثلاثة الماضية، على مقاربة تحديث الضواحي وفق سياسات محددة. حيث أنفقت "الوكالة الوطنية للتحديث الحضري"، بين عامي 2004 و2020، قرابة 12 مليار يورو، استُخدمت في هدم صفوف الأبنية الشاهقة، وتشييد أبنية حديثة أصغر، إضافة إلى تحسين وسائل النقل العام، إلا أن الكثير من المراقبين اعتبروا تلك السياسات غير كافية؛ لكونها لم تراعِ في نظرهم مسائل تطوير التعليم، وفرص العمل، ومكافحة التمييز، والعلاقات مع أجهزة الأمن، وصعوبة الوصول إلى الإجراءات القانونية وغيرها(10).

ووفق بيانات "معهد الإحصاء الوطني" (إنسي) لهذا العام، يعيش 5.2 ملايين شخص في أحياء محرومة في الضواحي، أي حوالي 8% من السكان في عام 2014، وقد حددت الدولة 1514 حيًّا فقيرًا عُرفت بالأحياء ذات الأولوية لسياسة المدينة، وهذه الأحياء هي بمجملها مناطق سكنية واسعة في ضواحي المدن الكبرى، أو مناطق صناعية سابقة، أو أحياء بعيدة عن وسط مدن صغيرة ومتوسطة الحجم. ثم إن نحوًا من 23.6% من سكان هذه الأحياء لم يولدوا في فرنسا، مقارنة بـ10.3% في بقية البلد، وفق بيانات "معهد الإحصاء الوطني" لعام 2021(11).

وعلى سبيل المثال ففي ضاحية سين-سان-دوني الباريسية ذات الكثافة السكانية العالية، وهي من الأحياء ذات الأولوية في السياسات الأمنية، يرتفع هذا المعدل إلى 30.9%، وفق بيانات "إنسي" لعام 2020. ويزيد احتمال أن يتعرض شاب يُنظر إليه على أنه من أصول إفريقية أو عربية إلى تدقيق أمني بعشرين ضعفًا مقارنة بغيره، وفق تقرير صادر عام 2017 عن هيئة "المدافعة عن الحقوق" الفرنسية. ويتراجع الوضع الاقتصادي لقاطني الأحياء الشعبية مقارنة بغيرهم؛ إذ يبلغ متوسط الدخل المتاح في الأحياء الشعبية 13770 يورو سنويًّا لكل أسرة، أي 1147.5 يورو شهريًّا، مقارنة بـ21730 يورو في المناطق المحيطة بها، وفق بيانات "إنسي" لعام 2020(12).

يعيش أكثر من نصف الأطفال في هذه الأحياء حالة الفقر (56.9% مقابل 21.2% في بقية فرنسا)، وفق معهد الإحصاء الوطني. بشكل عام، وكان معدل الفقر في الأحياء الشعبية عام 2019 أعلى ثلاث مرات من أي مكان آخر في فرنسا؛ إذ يعيش 43.3% من سكانها تحت خط الفقر، مقارنة بـ14.5% في بقية المناطق. بحيث يستفيد ربع سكان الأحياء الشعبية من "دخل التضامن النشط" والمساعدات الاجتماعية المستحقة للأشخاص الأكثر حرمانًا، وهو ضعف المعدل في بقية فرنسا(13).

كما أن معدل البطالة أعلى بكثير في الأحياء الشعبية، ففي عام 2020، كانت نسبة 18.6% من القوى العاملة عاطلين عن العمل، مقارنة بـ8% على المستوى الوطني، وانعكست الأوضاع الاقتصادية على المشاركة السياسية، إذ امتنع 48% من السكان البالغين في هذه الأحياء عن التصويت، أو لم يسجلوا في القوائم الانتخابية في الانتخابات الرئاسية لعام 2017، وعام 2020، فيما انخفضت هذه النسبة إلى 29% في بقية فرنسا. وبين عامي 2004 و2020، استثمرت الوكالة الوطنية للتجديد الحضري نحو 12 مليار يورو في الأحياء الشعبية. وقد تم هدم مجمعات سكنية ضخمة متهالكة في 600 حي، وشيدت مكانها مبان منخفضة وأكثر انفتاحًا على المدن، كما تعتزم الحكومة استثمار 12 مليار يورو إضافية بحلول عام 2030(14).

خلافًا للسنوات السابقة، تنذر أعمال الشغب التي انطلقت تزامنًا مع الاحتجاجات، بمخاطر لا يمكن التنبؤ بها، فما يُميزها أن منظميها من الشباب صغار السن الذين يتحركون وفق مجموعات صغيرة لها قدرة عالية على الحركة، وسرعة التفرق، والتجول بين مجموعة وأخرى عبر الدراجات النارية، لتشتيت انتباه رجال الأمن. كما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في حشد هؤلاء الشبان، وتنظيم تحركاتهم في التوقيت ذاته، وتنسيق عمليات الخروج والدخول وإشعال المنطقة. فيما تحاول الحكومة الفرنسية إيجاد سبل للتواصل مع هؤلاء الشبان الغاضبين، إلا أن صغر سنهم وتأثرهم بالألعاب والتطبيقات الافتراضية يصعِّبان عملية التواصل، وفق تصريحات المسؤولين الفرنسيين(15).

السياسات الحكومية إزاء أزمة الضواحي

منذ سبعينات القرن الماضي اعتمدت الحكومات الفرنسية مخططات لإصلاح الضواحي والأحياء الشعبية. فمن جورج بومبيدو إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، تنوعت الإستراتيجيات والمخططات التنموية بهدف إدماج الضواحي وسكانها في النسيج الاقتصادي والاجتماعي الوطني. ولا شك أن أعمال العنف التي تندلع بشكل متكرر فيها أبرز دليل على أن السياسات المتبعة من قبل الحكومات الفرنسية المتعاقبة لم تأت بثمارها رغم الأموال الهائلة التي صُرفت لتحسين أوضاع الناس وفتح أفق جديد لسكانها الذين ينحدر غالبيتهم من بلدان إفريقية وعربية(16).

الضواحي الفرنسية يربطها تاريخ مديد مع الهجرة؛ إذ بُني معظمها من أجل استقبال عشرات الآلاف من العمال المهاجرين الذين قدموا إلى البلاد غداة الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وعاشوا فيها مع عائلاتهم وأولادهم الذين باتوا يعمرونها حتى الآن، وأصبحت ترمز اليوم إلى العنف والتدني الاجتماعي، في العام 1977 أطلق الرئيس فاليري جيسكار-ديستان أول "مخطط" لتحسين العيش في الضواحي باسم مخطط "السكن والحياة الاجتماعية". وكان الهدف منه إدماج أكثر من 50 ضاحية شعبية في المجتمع الفرنسي عبر تحسين الصورة المعمارية والهندسية للمباني والشقق فضلًا عن دعم الحياة والعلاقات الاجتماعية بين سكان تلك الأحياء(17).

وفي العام 1981، أنشئ ما يسمى "المناطق ذات الأولوية في مجال التعليم" من قبل الرئيس فرانسوا ميتران، وكان آلان سفاري، وزير التربية آنذاك، هو الذي أُسندت إليه مهمة محاربة الرسوب المدرسي في المناطق والضواحي الفقيرة؛ لذا قام بمضاعفة الإمكانيات المالية لصالح المؤسسات التربوية لاسيما المدارس الابتدائية بهدف تقديم الدعم للتلاميذ ومساعدتهم على النجاح وتفادي الفشل الدراسي. وفي سنة 1988، أطلق وزير التخطيط، ميشال روكار، مشروعًا لتعزيز التماسك بين الدولة والأقاليم، وكان هدفه إنشاء هياكل اقتصادية جديدة وتعزيز البنية التحتية للضواحي مع تمكين سكانها من الخروج من العزلة الاقتصادية وإيجاد فرص عمل جديدة(18).

أما في 1991، فقد قام الرئيس السابق، ميتران، بإقرار قانون جديد يرغم كل المدن التي يتعدى سكانها 20 ألف نسمة بتخصيص 20% من مشاريعها العقارية لبناء سكن اجتماعي مع فرض غرامات مالية على البلديات والمدن التي لا تحترم هذا القرار. لكن مع مرور الوقت، لوحظ أن العديد من البلديات، لاسيما الغنية تفضِّل دفع الغرامة المالية عوضًا عن تخصيص 20% من مشاريعها العقارية لبناء سكن اجتماعي(19).

وفي التسعينات، أطلق الرئيس جاك شيراك مخطط "مارشال" لإنقاذ الضواحي الفرنسية منتقدًا ما سماه الشرخ الاجتماعي، وقد أُسندت مهمة إعادة تأهيل أحياء الضواحي لرئيس الوزراء، آلان جوبيه، الذي أعلن عن أكثر من 60 إجراء تهدف إلى إنعاش الضواحي اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فيما تم إنشاء حوالي 30 "منطقة حرة" في فرنسا. وقد أعفىيت الشركات التي تستثمر في هذه المناطق الحرة من دفع الضرائب مقابل توظيف شبان الأحياء. وفي 1997، أسس وزير الداخلية، جان بيار شوفنمان، ما يسمى "الشرطة الجوارية" للتصدي للعنف الحضري(20).

وقد أطلق رئيس الحكومة الأسبق، ليونيل جوسبان، مشروع "التجديد الحضري والتضامني" في الضواحي الفرنسية بتكلفة قدرها حوالي 3 مليارات يورو. وفي 2001، كشف جوسبان عن مخطط ثان بقيمة 5.4 مليارات يورو. وكانت أهداف هذا المخطط الطموح تحسينَ ظروف العيش في أحياء الضواحي مع تنفيذ سياسة التجديد الحضري. فالدولة قامت بموجب هذا المخطط بهدم العديد من المباني القديمة وإصلاح الطرقات وربط الضواحي بالمدن الكبرى، كل هذا عبر تطوير وسائل النقل وتجديدها، بالإضافة إلى بناء مساحات خضراء (حدائق عامة) ومرافق صحية ورياضية. وفي العام 2005، صادق وزير المدينة، جان لوي بورلو، على قانون "التوجيه والبرمجة الخاص بالمدينة" والتجديد الحضري. هذا القانون ينص على هدم المباني القديمة وبناء سكن جديد فضلًا عن تقليص الفوارق الاجتماعية بين سكان الضواحي والذين يعيشون في المدن الكبرى(21).

كما أطلق الرئيس نيكولا ساركوزي، في العام 2008، برنامج "أمل الضواحي"، وقام بتعيين الناشطة فضيلة عمارة، وهي من أصول جزائرية، في منصب كاتبة دولة لسياسة المدينة. وهي المرة الأولى التي يتم فيها تعيين مسؤول حكومي رفيع المستوى من أصول أجنبية من أجل رسم سياسة جديدة للضواحي. وكان هدف مخطط "أمل الضواحي" تقليص نسبة البطالة في صفوف الشبان الذين لا تتعدى أعمارهم 26 عامًا. كما خصصت الحكومة آنذاك نحو مليار يورو من أجل تطوير قطاع النقل بالضواحي الفرنسية إضافة إلى توظيف أكثر من 4000 شرطي جديد في الأحياء الشعبية الحساسة بهدف تحسين العلاقات مع الشبان. لكن المخطط اصطدم في نهاية المطاف بتصريحات ساركوزي الصادمة والمثيرة للجدل(22).

وبدوره وضع الرئيس فرانسوا هولاند، في العام 2012، خطة لتأهيل أكثر من ألف حي شعبي في فرنسا، تضمنت حوالي 25 إجراء أبرزها توظيف شبان الضواحي من قبل شركات كبرى رغم عدم امتلاكهم شهادات تعليمية أو مؤهلات وظيفية. بالمقابل، منحت الدولة خمسة آلاف يورو للشركات والمصانع التي انخرطت في هذا المشروع عن كل شاب يتم توظيفه. كما تضمنت الخطة تعيين مدرسين إضافيين في المرحلة الابتدائية، وإمكانية إرسال الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم ثلاث سنوات إلى الحضانات.

وفي العام 2017، طلب الرئيس إيمانويل ماكرون من وزير المدينة السابق، جان لوي بورلو، اقتراح مشروع لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الضواحي الفرنسية. وقد اجتهد الأخير خلال عدة شهور لرسم خارطة جديدة للضواحي بقيمة 48 مليار يورو. وكان يُنظر إلى مشروع بورلو على أنه الأكثر تكاملًا؛ حيث أخذ بعين الاعتبار المشاكل الحقيقية التي يعاني منها سكان الضواحي والأحياء الشعبية. لكن أيامًا قليلة فقط قبل الإعلان عن مضمونه، قرر الرئيس ماكرون التخلي عن المشروع؛ ليواجه انتقادات لاذعة. وردَّ الرئيس ماكرون على منتقديه بالقول إن منذ توليه السلطة، صرفت الدولة الفرنسية أكثر من 20 مليار يورو(23).

مستقبل أزمة الضواحي

فيما تحاول فرنسا التصدي لأعنف احتجاجات ضد العنصرية شهدتها البلاد، نُقل عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سعيه لإيجاد حل نهائي لمسألة العنف وأزمة الضواحي وسط جدل في فرنسا حول مسألة معالجة أوضاع المهاجرين وأحيائهم، بين من يطالب بمزيد من التشدد الأمني وبين من يدعو إلى إيجاد حل للمشاكل من جذورها. هذا مع ملاحظة أن هذه التطورات جاءت بعد تعديل القانون الذي ينص على استخدام الأسلحة النارية في عام 2017، وبموجبه يمكن للضباط الآن إطلاق النار في مجموعة من الظروف الواسعة (وغالبًا ما تكون غامضة). وقد تم ربط هذا القانون بـ13 حالة وفاة بعد توقف حركة المرور في عام 2022 وحده(24).

عندما التقى ماكرون مع أكثر من 250 رئيس بلدية واجهوا أعمال عنف في البلدات والعقارات، سلطت نداءاتهم للمساعدة في إلقاء الضوء على الانقسامات السياسية العميقة؛ حيث قال عدد من رؤساء البلديات المنتمين لليمين: إن هناك حاجة إلى مزيد من "السلطة" والشرطة والحزم. وانضم البعض إلى ماكرون في دعواته للآباء للسيطرة بشكل أفضل على المراهقين. لكن تيارات اليسار قالت: إن هناك فشلًا في معالجة الفصل العنصري في المناطق الفقيرة؛ حيث بات هناك تمييز وعدم مساواة في التعليم وسياسة الإسكان، في مؤشر على انقسام كبير بالمجتمع الفرنسي.

وهناك مؤشر مفيد لمعرفة جانب من التدافع الذي تشهده الساحة السياسية والاجتماعية الفرنسية؛ حيث أطلق السياسي الفرنسي ذو الأصول المصرية، جون مسيحة، حملة على موقع "غوفاندم" الشهير، قائلًا:  إنها تهدف إلى دعم عائلة شرطي نانتير، "فلوريان إم."، مؤكدًا على أن الشرطي فلوريان قام بعمله ويدفع الآن ثمنًا باهظًا جرَّاء ذلك، فلابد -حسب جون مسيحة- من دعمه بشكل كبير ومن دعم تطبيق القانون. وقد حصدت هذه الحملة أكثر من مليون ونصف المليون يورو؛ حيث أسهم فيها أكثر من 34 ألف متبرع. من جهة أخرى، ولمساعدة والدة الفتى نائل، تم على موقع "ليتشني" الإعلان عن جمع التبرعات، وخلال الفترة الماضية لم يجمع أكثر من نصف مليون يورو، وقد شارك في الحملة ما يقرب من 5 آلاف شخص(25).

تبدو أزمة فرنسا نابعة من كون هذا البلد الأوروبي المتقدم يجمع بين أسوأ ما في اليمين واليسار، إضافة لعلمانية متطرفة، ودولة مركزية اعتادت على محو الفوارق بين المجتمعات بالقوة عبر تاريخها، إحدى الإشكاليات الكبيرة في الثقافة الفرنسية، أنها لا تعترف رسميًّا بوجود أقليات بدعوى أن ذلك يمثل نوعًا من التمييز لذا ستكون أزمة الضواحي حاضرة مع كل حقبة من الحقب(26).

الموضوع التالي هل تخلق شبكات التواصل الاجتماعي الاستقطاب السياسي..؟؟
الموضوع السابق"بكين" تواجه العقوبات الغربية بقانون جديد للعلاقات الخارجية